ماسبيرو هو مخزن كفاءات مصر الإعلامية.. وكنز كل ترددات الإذاعة والتليفزيون المخصصة لبلدنا، والتى هى ثروة قومية تركزت فى القاهرة وحرمت منها باقى مدن مصر وضواحيها وقراها من جراء مركزية خانقة بدأت مع الإذاعة عام 1934 وامتدت عبر التليفزيون عام 1960 ودفعت بمواطنيها فى نهاية المطاف إلى استيراد إعلام الخارج بأطباق الفضائيات بدلا من المنتج المحلى فيما يشبه شراءنا زجاجات المياه المعلبة بدلا من مياه الحنفية المكررة .
المطلوب ليس كيفية التخلص من تكدس العاملين فى ماسبيرو، بل الاستفادة من خبراتهم وصقل مواهب وكفاءات بعضهم لنحدث بهم ومعهم ثورة إعلامية حقيقية تعوض ربوع مصر من حرمانها وسائل الاتصال الحديث الذى جعلنا غير قادرين على إجراء انتخابات محلية يتنافس فيها المرشحون عبر وسائلهم الإعلامية المحلية بل وانتخابات برلمانية فردية لا تحتاج إلى قوائم قومية تعتمد على مشاهير القاهرة وشخصيات إعلامها المركزى لأن توافر إذاعات وتليفزيونات محلية فى كل دائرة انتخابية ستوفر للمرشحين الفرديين وسائل توصيل برامجهم ومناظرة منافسيهم دون الاعتماد على أفواج القبيلة والعشيرة والعائلة.
ناهيكم عن استمرار استخدامنا ميكروفونات المساجد وعربات الحنطور أو التوك توك لإبلاغ الأهالى والأحياء بأنباء الأموات والمناسبات والأعطال فيما يشبه منادى العصور الوسطى.
إن الترددات الإذاعية والتليفزيونية الأرضية المحبوسة فى مبنى ماسبيرو ومهدرة فى عدة قنوات محدودة ومركزية تكفى بإعادة توزيعها فنيا وهندسيا ومضاعفة بعضها، بتكنولوجيا الترقيم الملتزمين عالميا بتطبيقها عاجلا، بتوفير ما لا يقل عن أربعة آلاف محطة إذاعية وتليفزيونية محلية تغطى كل مدن وربوع مصر وتستوعب أكثر من أربعين ألفا من مذيعى ومحررى ومهندسى وإداريى ورجال امن ماسبيرو.. ما هو الحافز؟
نحن لا نتحدث هنا عن ترحيل موظفى ماسبيرو إلى الأقاليم كموظف مغضوب عليه أو دون محسوبية تبقيه مكانه، ولا نسعى إلى بيع هذه الترددات فى مزادات علنية أو خفية لمن يملك أكثر فينتهى بنا الحال إلى مأساة إعلام رجال المال والأعمال والإعلان الفردى الذى نشكو منه الآن، ولا نسعى حتى إلى إلغاء القنوات الإذاعية والتليفزيونية العامة، بل نريدها عامة بحق للشعب تقدم ما يريده بعدد محدود من موظفيها ودون إعلانات تجارية مادام تمويلها من أموال الدولة وشعبها. بحسبة بسيطة نقسم أربعين ألف موظف فى ماسبيرو بمختلف تخصصاتهم على أربعة آلاف محطة محلية ممكن إنشاؤها، يصبح نصيب كل عشرة منهم محطة تجارية يملكها هؤلاء العشرة كمشروع تجارى تعاونى بامتياز رخصة مجانية لفترة من عشر إلى عشرين سنة، مقابل ترك أعمالهم كموظفين مع دفع راتب سنة للمرحلة الانتقالية وتدريبهم وتأهيلهم لمتطلبات المشروع الجديد.
هذه القنوات المحلية الملتزمة فى امتياز رخصتها على ميثاق شرف ونسب لإعلانات الخدمة العامة المحلية وقيود نقل الملكية حتى نتجنب الملكية الفردية أو غير المصرية لتردداتنا، ستجد أمامها كل فرص التمويل من الإعلانات التجارية المحلية التى لا يعنيها إشهار سلعتها أو خدماتها فى القنوات القومية والمركزية بقدر مردود وأهمية الإعلانات لزبائنه فى المنطقة، بالإضافة لإعلانات المرشحين فى الانتخابات المحلية والبرلمانية وغيرها وفق شروط تحد من هيمنة أصحاب المال على السلطة ولو كانت محلية.
يبقى إنشاء شبكات إذاعية وتليفزيونية قومية أو مركزية، لا تعتمد على الأسلوب الحالى فى إرسال تردداتها مباشرة من القاهرة إلى كل أنحاء مصر باستخدام أبراج تقوية للإرسال، بل من خلال التعاقد مع القنوات المحلية لتصبح كل منها فى كل مدينة تابعة أو منتسبة لقناة قومية تنضم معا فى أوقات لبث النشرة الإخبارية القومية صباحا وظهيرة ومساء مثلا مع برامج ودراما قومية تنتجها الشبكة المركزية مع إعلاناتها التجارية القومية ثم تنفصل قناة كل مدينة أو قرية لتبث أخبارها وبرامجها وإعلاناتها المحلية.
ولنا أن نتصور عدد فرص العمل الإضافية التى ستوفرها تلك المحطات المحلية وكم المواهب والكفاءات الإعلامية المحلية التى ستبرز على المستوى القومي، وكذلك الصناعات التى ستنتعش لتوفير أبراج إرسال وأجهزة البث الإذاعى والتليفزيونى فى كل أنحاء مصر. وقتها سيرتبط المصريون بقنواتهم المحلية وهى نفسها التى تنقل لهم برامج وأخبار الوطن بكامله وسيأتى وقت يتذكر المشاهد المصرى أن سطح منزله أو عمارته مزدحم ومشوه بصفائح أطباق متربة عفا عليها الزمن..
فتعالوا ننهض بإعلامنا لنهبط به من فضاء الآخرين وقنواتهم الموجهة إلى ارض المواطنين ورحابة وصفو سمائهم.
إعلامى تعلم فى ماسبيرو وأستاذ ممارس للصحافة التليفزيونية بالجامعة الأمريكية القاهرة. نقلا عن الأهرام