لنتخيل أن في فرنسا مدرسة صحافة واحدة وأن أساتذتها لا يأتون سوى من جريدة «لوفيغارو». أو أن هناك صفاً جامعياً واحداً حول الصناعة النووية يمسك به نواب «حزب الخضر - أوروبا البيئة». أو أيضاً أننا نعلم في جامعاتنا الاقتصادية اسلوب تفكير واحد يقوم على ان النتيجتين الكبيرتين لما حدث في 2007 [الأزمة المالية] هي ان الأزمات تنتمي الى الماضي وأن الفقاعات المالية غير موجودة.
الحالة الأخيرة ليست خيالية للأسف. ما زالت النظرية المهيمنة المغروسة بعمق في اذهان اقتصاديي المستقبل تستند الى النموذج المعياري لمقاربة جرى صوغها وإسنادها بالمعادلات الرياضية والنماذج، وتعتمد نتائج على فرضيات مقيدة جداً يبدو فيها كأن مجمل اقتصاد بلد ما يسلك مثل سلوك الفرد وأن القرارات تتخذ عقلانياً وأن النقود ليست إلا لتسهيل التبادلات وأن التمويل لا يؤدي أي دور في الاقتصاد وما شابه ذلك.
ويمسك المدافعون عن هذه الرؤية بأكثرية الصفوف والمختبرات والجامعات. ويسيطرون بالتالي على موازنات البحث والمناصب الرئيسة وعلى اختيار اقتصاديي المستقبل. باختصار، يملكون القدرة على تعريف ما هو جيد للاقتصاد وما هو سيء. ومنذ بضع سنوات، تصارع «الرابطة الفرنسية للاقتصاد السياسي» وأعضاؤها البالغ عددهم ستمئة، من اجل حق الاقتصاديين المختلفين الذين يستوحون افكارهم من كينيز ومن ماركس وبيرو ومن دعاة المؤسسات الأميركيين وغيرهم، في ان يشير اليهم هذا الاقتصاد المهيمن ويعترف بأرائهم. يرى هؤلاء ان الرياضيات وسيلة وليست هدفاً، وأن النقد ليس شراعاً يدفع الاقتصاد بل مؤسسة وأن التاريخ والأخلاق وتحليل علاقات القوى تشكل كلها جزءاً من الاقتصاد خصوصاً ان ثمة عدداً كبيراً من اصناف التفكير في الاقتصاد.
هذه المجموعة تحتضر ببساطة. اظهرت الباحثة فلورنس جاني - كاتريس في 2013 ان لجنة الحكم التي تختار كبار اساتذة الاقتصاد- مع الموازنات والمواقع التي تصاحبهم - من بين اساتذة الجامعات، لم يقع خيارها سوى على 10.5 في المئة من اصحاب الرؤى المخالفة للأفكار السائدة وذلك منذ بداية العقد الأول من القرن الحالي. وفي الأعوام القليلة الماضية انخفضت نسبة اصحاب الآراء المختلفة الى خمسة في المئة. ووفق الإيقاع هذا لن يكون هناك قريباً سوى تفكير وحيد وطريقة واحدة في التفكير في الاقتصاد تملك الحق في العمل في فرنسا.
أنشئت «الرابطة الفرنسية للاقتصاد السياسي» لتجنب هذه النهاية القدرية. اما مضمون قضيتها فهو ان تسمح الحكومة بإيجاد لجنة حكام أخرى وقسم آخر من المجلس الوطني للجامعات اكثر انفتاحاً على الثقافات المختلفة وعلى المناهج المختلفة في الاقتصاد. وزير التربية الوطنية السابق بونوا هامون كان مؤيداً للفكرة. كذلك نجاة فالو - بلقاسم التي حلت مكانه. وفي 18 كانون الأول (ديسمبر) 2014 ابلغت الوزارة «الرابطة» ان القرار قد اتخذ بإنشاء لجنة حكام جديدة.
لكن ما أن أُعلن النبأ حتى باشر المدافعون عن الفكر الأحادي الصراع ضدها. هدد ألان أيونغ لو كاما الذي يرأس اللجنة الحالية باستقالة جماعية. واعترف في رسالة الى الوزيرة أن بعض الاقتصاديين يشعرون «بالتهميش وآخرين بنقص التشجيع بل بالإقصاء» وذهب الى حد الإقرار «أن النقص في التعدد لا يمكن انكاره» فيقترح... عدم انشاء قسم جديد! الأسوأ: في الكواليس ظهر الاقتصاديان فيليب اغيون وجان تيرول في قصري الإليزيه وماتينيون محاولين إلغاء القرار. والسبب؟ غير معلوم. قال فيليب أغيون إنه لا يرغب في مناقشة الأمر علناً. اما امانة سر جان تيرول فقالت ان الأستاذ مشغول جداً بأمور مختلفة ويأمل بتخصيص وقته لأبحاثه. لكنه وجد بضع دقائق ليكتب رسالة الى الحكومة يدين فيها تشكيل القسم الجديد وكل من لا يشاركه رؤيته الى الاقتصاد باعتبارهم «حَمَلة للأفكار البالية»... جندت الشبكات الإعلامية نفسها ونددت «لوفيغارو» بالمدافعين عن القسم الجديد ووصفتهم بالفاشلين والمحبطين من الجامعة... ومن بينهم عدد من الأسماء اللامعة في الاقتصاد الفرنسي مثل اندريه اورليان وميشال اغلييتا وروبير بواييه وآخرين، كلهم فاشلون!
قررت الحكومة التراجع وألغت قرارها. مرت ريح التغيير في غاية القرب وانخرط لو كاما في توظيف المزيد من المشككين بالمقولات السائدة. طلب رئيس الوزراء تقريراً بالوضع قبل نهاية العام الماضي. ومع استمرار التعيينات حتى نصف آذار(مارس) الماضي لم يتضح بعد حجم التغير في نوعية المعينين الجدد. لكن نسبة من تم اختيارهم والمصنفين كمدافعين عن التعددية تجاوز الربع. وهذا رائع. ووفقاً «للرابطة الفرنسية للاقتصاد السياسي»، أن هؤلاء المرشحين قد يُرفضون لاحقاً بسسب صغر سنهم. باختصار، ما زالت مشكلة التفكير الأحادي في مجال الاقتصاد في فرنسا على حالها.
لا يسعنا فهم سبب تكتل اقتصاديي التيار السائد ضد امكان تشكيل القسم الجديد. هل سيقسم ذلك عالم الاقتصاديين الفرنسيين الصغير؟ لقد وقع ذلك وهم من يتحمل المسؤولية.
هل سيفتح ذلك الباب امام اشخاص ليسوا على المستوى الملائم بتعزيز مواقعهم؟ اذا كان الأمر كذلك، لن يجدوا منصب استاذ كبير. وإذا وجدوا في الجامعات التي لم تلق بالاً الى نوعية عملهم سيفر الطلاب منهم.
ويقال ان معلمين يقترحون منهجاً تعليمياً تعددي المناهج والأفكار وأقل تمسكاً بالشكليات وأكثر انفتاحاً على مشكلات العالم الحقيقية وعلى الاختصاصات الأخرى سيكونون مؤهلين اكثر لتحفيز اعداد كبيرة من الطلاب الذين يتضاءل الآن اهتمامهم بكليات الاقتصاد. في واقع الأمر، ومقابل طريقة جامدة في التأهيل العلمي، يميل التيار الرئيس الى الحفاظ على القواعد القائمة في المؤسسات بما يتيح رفض المنافسة.
هل تستطيع الحكومة تقديم الدعم الجدي لوجهة النظر هذه؟ ستكون الأشهر المقبل شديدة الأهمية لنعلم اذا كان من حق فكر اقتصادي تعددي الوجود في بلدنا. نقلا عن الحياة
* كاتب، عن «إسبري» الفرنسية، عدد أيار(مايو) 2015، إعداد حسام