يبحث الأميركيون في تطوير الترسانة الأوروبية النووية، وفي الأسابيع الأخيرة بدأ سباق تسلح خطابي يحمل في ثناياه بقايا أبرد مراحل الحرب الباردة. وحذر وزير الخارجية الألماني، فرانك – والتر شتانماير، من الانزلاق في دوامة الكلمات ومنها إلى الأفعال (التهور). ووصف التصعيد الخطابي بردود قديمة موروثة من الحرب الباردة. وتخشى برلين أن يتجاذب أوروبا من جديد نزاع بين الشرق والغرب، وأن تتحول ألمانيا إلى منطقة مرابطة عسكرية. ولمحت مصادر في وزارة الدفاع أن عتاداً عسكرياً أكبر قد يخزن في ألمانيا. وتعد واشنطن لنشر دبابات وأسلحة وعتاد ثقيل تكون في متناول 5 آلاف جندي في ألمانيا ودول شرق أوروبا المنضوية في الناتو. ويسعى الرئيس باراك أوباما إلى طمأنة مخاوف دول البلطيق وغيرها من دول شرق أوروبا التي تخشى عدواناً روسياً منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. ويسعى كذلك إلى وقف توجيه الكونغرس سهام الانتقاد إليه وتهم التنازل أمام بوتين. ولكن المستشارة الألمانية لا تنظر بعين الرضى إلى احتمال زيادة العتاد الأميركي في أوروبا. فهي تتجنب انتقاد الحليف الأميركي في العلن، وتبغض أن تقدم على ما يؤجج النزاع مع موسكو. والرأي العام الألماني لن يؤيد إعادة التسلح الذي قد يشوه صورة المستشارة وتظهر كأنها دمية في يد الولايات المتحدة: ترضى بأن يتنصت عليها وتقف موقف المتفرج حين تقوض الرابطة ببوتين التي كانت الجسر إلى مدها.
وترى موسكو أن المشاريع الأميركية هي دليل على رغبة واشنطن في توسيع منطقة نفوذها العسكري في أوروبا. ولا ترغب برلين في التخلي عن اتفاق الناتو مع روسيا. لذا، رفضت مرابطة جنود الأطلسي مرابطة دائمة في الكتلة الشرقية السابقة. والأميركيون عازمون على تجنب الخلاف مع برلين. لذا، تعد واشنطن لإرسال فرق صغيرة إلى الدول الحدودية. ويتوقع أن يرابط الشطر الأكبر من الكتيبة الأميركية في غرافينوهر في ألمانيا. ويقدر الجيش الألماني أن العتاد الثقيل الأميركي سيشمل 100 دبابة. ويوجه عدد كبير من دول الناتو، وخصوصاً في غرب أوروبا، سهام النقد إلى المشروع الأميركي. وبعض السياسيين يحذر من النفخ في النزاع مع روسيا. وليس نشر السلاح في أوروبا «استراتيجية خروج (من الأزمة)»، على قول رئيس وزراء لوكسمبورغ في زيارته برلين. وخطط التسلح الأميركية في أوروبا هي تطور خطير يعود إلى ما قبل الأزمة الأوكرانية. وقوضت كل من واشنطن وموسكو تفاهمات نزع السلاح الواحد وراء الآخر، أو بادرت إلى إلغاء بعض هذه الاتفاقات. فحين انتهت الحرب الباردة، أُبرم عدد من اتفاقات نزع السلاح النووي والتقليدي بدءاً باتفاق القوات المسلحة التقليدية في أوروبا وصولاً إلى تقليص السلاح الاستراتيجي. ولكن «اليوم موسكو لم تعد تصدق الغرب، والغرب لا يصدقها»، قال ميخائيل غروباتشوف في كانون الثاني (يناير) المنصرم.
ولا تدور المسائل اليوم على الأسلحة التقليدية فحسب، بل على الأسلحة النووية كذلك. فموسكو تسعى في تحديث ترسانتها النووية، ولوحت بتهديدات عاصفة. ودار كلام مسؤول كبير في وزارة الخارجية الروسية في آذار (مارس) الماضي على احتمال نشر سلاح نووي في القرم. ويبحث الأميركيون في توسيع ترسانتهم النووية في أوروبا، وفي نشر صواريخ كروز مزودة رؤوساً نووية على نحو ما فعلت في 1979 حين انتهج الناتو «مساراً مزدوجاً» فانزلق الحلف العابر للأطلسي في أسوأ أزمة في تاريخه. وتتهم واشنطن موسكو بانتهاك اتفاق القوة النووية المتوسطة الأمد، المعروف باتفاق «آي ان اف». وهو اتفاق أسطوري أبرمه رونالد ريغن وميخائيل غورباتشوف في 1987، وأبرم طي الحرب الباردة. وقضى بتخلص الطرفين من قواعد السلاح النووي المتوسطة الأمد. وأعلن القائد الأعلى لقوات الناتو، فيليب بريدلوف، أن نشر سلاح ينتهك هذا الاتفاق لن يمر من غير رد. وقال فرانك روز، مسؤول ضبط السلاح في وزارة الخارجية الأميركية، «حري بروسيا والحلفاء إدراك أن صبرنا محدود».
ويتعثر الحلفاء في الإجماع على ما إذا انتهكت موسكو اتفاق نهاية الحرب الباردة أم لا. ولا يرغب الأوروبيون في الاعتماد على خلاصات الاستخبارات الأميركية الممتازة القدرات. وترى واشنطن أن موسكو اختبرت صواريخ كروز «أر-500» وصواريخ «أر أس- 26» الباليستية. والأوروبيون لا يجمعون على ذلك. وخلص أعضاء في مجموعة التخطيط النووي الأطلسية إلى أن مشروع موسكو لتجديد السلاح لا ينتهك الاتفاق. وموسكو تستخف باتفاق «آي أن أف»، وترى أنه حبر على ورق، على قول الخبير العسكري الروسي، فيكتور موراشوفسكي. «لا قيمة لهذا الاتفاق، إذ في وسع طائرات الناتو بلوغ سان بطرسبرغ في 5 دقائق انطلاقاً من استونيا، في وقت تدور السفن الحربية الأطلسية حول بحر البلطيق والبحر الأسود». وترى الدوائر العسكرية الألمانية أن استعراض القوة العسكرية الروسية وتهديداتها هما دليل ضعف. فعلى خلاف الحال في الحرب الباردة، لا يفوق حجم الأسلحة التقليدية الروسية نظيرها الأطلسي. لذا، تسد روسيا العجز هذا من طريق التلويح بالردع النووي. نقلا عن الحياة
* مجموعة مراسلين، عن «شبيغل.دي» الألمانية، 19/6/2015، إعداد منال النحاس