هيا نفكر خارج صندوق الطبقة السياسية والثقافية المصرية التى أربكت الحكومة، وشتت المجتمع، وأثارت المجتمع الدولي، وأضرت بمصالح الدولة المصرية ضررا بالغا؛ كل ذلك من أجل مصالحها وطموحاتها، وحماية الفاسدين منها، وتأمين مصالحهم، هذه الطبقة الفاشلة فى مجموعها، والفاسدة فى بعضها؛ لا هم لها الا انتخابات مجلس النواب، وهو حق أُريد به باطل، الهدف المعلن هو حماية مصر من تغول السلطة التنفيذية، وهو هدف نبيل، ولا يستطيع أحد أن يعارضه، ولكن يعرف الجميع أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هذا المجلس المنتظر لن يقوم بهذا الدور الا اذا وجد فيه نواب حقيقيون يعملون لمصلحة مصر.
التفكير خارج صندوق نخبة الأحزاب الافتراضية والكيانات الوهمية وفضائيات رجال أعمال عصر الانفتاح؛ يستلزم أن ننظر للعملية الديمقراطية بصورة شمولية ومتوازنة وتراتبية، وهذا يتطلب أن نتعمق فى تحليل بنية الثقافة المصرية، وتحديد كيفية صناعة الرأى والرؤية، وكيفية توجيه السلوك التصويتي، وتحديد القوى التى تؤثر فيه وعليه وتقوم بتوجيهه، وهذا يتطلب أن تكون هناك عملية ديمقراطية مؤسسة على قواعد صلبة وليس مجلسا نيابيا معلقا فى الفضاء القاهري، يحقق طموحات الشطار والعيارين.
وهنا نقدم رؤية مختلفة لاستكمال بنية النظام السياسى المصرى بصورة تحقق أهداف مصر، وتؤمن مستقبلها، وترسى قواعد ممارسة ديمقراطية سليمة ومستدامة، وليست عملية ديمقراطية شكلية قصيرة النظر، موجهة لاسكات المنتقدين، واخراس الخصوم السياسيين، واسترضاء العالمين من الأمريكان والأوروبيين، هذه الرؤية تقوم على ثلاث مراحل؛ تتم الأولى والثانية بصورة متزامنة وتليهما المرحلة الثالثة والأخيرة.
أولا: انتخابات لتأسيس الديمقراطية على مستوى المجتمع المدنى. وذلك من خلال اطلاق عملية واسعة من الفعاليات الديمقراطية لاعادة تشكيل مجالس ادارة جميع النقابات والاتحادات والجمعيات الخيرية والمؤسسات التطويعية ونوادى الجامعات، فى جميع أنحاء القطر المصري، ما عدا تلك التى أجريت فيها انتخابات خلال عامى 2014 و2015، وبذلك يتم تجديد دماء المجتمع المدنى بصورة كاملة، مع ضرورة وضع شروط أساسية لتنظيم هذه الانتخابات؛ يصدر بها قرار بقانون من الجهة المخولة بذلك، يتضمن: أن يكون ثلث المقاعد للشباب دون الخامسة والثلاثين، والثلث الثانى لمن هم دون الخمسين، والثلث الثالث لمن تجاوز الخمسين. ويتضمن أيضا أن يكون ثلثا المقاعد مخصصا لمرشحين لم يسبق لهم تولى مناصب قيادية على المستوى الذى يترشحون عليه، أى أن ثلثى من يترشح على نقابة المهندسين على مستوى الجمهورية مثلا لا يكونون قد عملوا فى مجلس ادارة النقابة على هذا المستوى، ولكن قد يكونون أعضاء فى مجلس ادارة النقابة على المستوى الفرعى فى أى محافظة. ان تجديد دماء المجتمع المدنى سيفسح الطريق أمام طاقات الشباب؛ الذين سيكون لهم بالفعل دور مؤثر فى العملية الانتخابية على مستوى البرلمان، وفى نفس الوقت سوف يزيل كل بؤر الفساد التى كانت تستخدم مؤسسات المجتمع المدنى لتزوير ارادة الناخب المصري؛ ان تأثير مؤسسات المجتمع المدنى ممثلا فى النقابات والنوادى والجمعيات الخيرية على انتخابات المجلس التشريعى غير محدود، وأكبر مما يتصور مثقفو الفضائيات.
ثانيا: انتخابات لتأسيس الديمقراطية فى الحكم المحلى. الحكم المحلى ممثلا فى مجالس القرى والأحياء والمدن والمحافظات هو المدرسة الأولى لتعليم الديمفراطية سواء لأعضاء الأحزاب أو المهتمين بالعمل العام من المستقلين، وهو اللبنة الأولى والأساسية للبناء الديمقراطى فى أى دولة، وهو الوسيلة الأولى لتحقيق التنمية الشاملة وتفعيل قوى المجتمع، وهو الجهاز الأساسى لضمان الرقابة على الخدمات ومحاربة الفساد.
الحكم المحلى هو أساس الديمقراطية، بل هو كل الديمقراطية فى النظم التى تحترم الانسان، لأن الحكم المحلى يتعلق بكل حياة الناس وكل مصالحهم وكل وجودهم الانساني، وهو أساس الاستقرار والأمن فى أى دولة من الدول، ومن يعرف بعمق النظام السياسى الأمريكى يعرف أن أكثر من تسعين بالمائة من حياة المواطن الأمريكى تتعلق بالحكم المحلي، ويقوم بها الحكم المحلي، وما عدا الميزانية الاتحادية والدفاع والخارجية لا تقوم الحكومة الاتحادية بشئ. وعلى الرغم من تلك الحقيقة؛ فان لصوص الثورات والانتهازيين فيها غالبا ما يكون كل همومهم منصبة على الهدم لتحقيق نجاحات شخصية وبطولات ذاتية تصب فى نظرية السبوبة التى ينشغل بها الناشطون السياسيون الانتهازيون ثمنا لدماء من ضحى بحياته لتنجح هذه الثورات، وكان أهل السبوبة من لصوص ثورة يناير 2011 فى مصر مسارعين فى الهدم؛ فانصرف جهدهم لتفكيك الحكم المحلي، وحل جميع المجالس المحلية لانها تنتمى للعصر البائد، وبعد انتهاء الهدم؛ لم يلتفت أحد الى البناء، فبعد حل جميع المجالس المحلية فى مصر عقب الثورة فى 2011 بقيت مصر الى تاريخ اليوم بدون مجالس حكم محلي، لذلك شهدت مصر ما شهدته من خلل ضخم فى الخدمات العامة، ومن فساد وفوضى.
لذلك فان الدعوة لانتخابات البرلمان دون أن يكون هناك حكم محلى يعبر عن مرحلة ما بعد يناير 2011 هى نوع من العبث الجاهل بالسياسة على مستوى القرية والحى والمدينة والمحافظة، أى انتخابات برلمانية بدون حكم محلى قوى ستشهد أقصى أنواع الفساد العائلية والشللية والخرافات الدينية، ومن هنا فان انتخابات الحكم المحلى تعد خطوة أولية أساسية لابد أن تسبق انتخابات المجلس التشريعي، وبالمناسبة هذه الانتخابات يمكن أن تجرى فى أى وقت لانها بعيدة عن اهتمام الأحزاب القاهرية.
ثالثا: انتخابات لقمة هرم الديمقراطية وهى انتخابات المجلس التشريعى الذى يقوم بدورى التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية، وهى ضرورة ملحة لتحقيق الاستقرار والانضباط فى النظام السياسى من ناحية، ولاكتمال البناء المؤسسى للنظام السياسى فى مصر من ناحية ثانية، ولانهاء حالة الردح السياسى التى تعيشها مصر الآن من ناحية ثالثة.
هذه الخطوات الثلاث بنفس الترتيب هى التى تؤسس لنظام سياسى ديمقراطى فى مصر، والقفز الى الخطوة الثالثة سيحقق فقط انهاء حالة الردح السياسى التى تعيشها مصر، ولكن لا يضمن وصول أعضاء حقيقيين للبرلمان قادرين وراغبين فى القيام بوظيفتى التشريع والرقابة. نقلا عن الأهرام