المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
فرانسوا إيوالد
فرانسوا إيوالد

الحق الجنائي من سيزاري بكّاريا ... إلى ميشال فوكو

الأربعاء 08/يوليو/2015 - 11:01 ص

تنبه قراءة محاضرات ميشال فوكو في «الكوليج دي فرانس» (1971-1984) إلى انتهاجه طريقاً جديداً، ومعالجته موضوعاً لم يسبق إليه، هو تاريخ الحقيقة، فهو يقتفي أثر تجارب الحقيقة التي لا تقتصر على تلك التي كرستها فلسفة العلوم التقليدية والمعروفة، ففوكو يتفحص صور أو أشكال التحقيق، أو القول الحق في المجالات غير العلمية: المجال الديني، والمجال القضائي، والمجال السياسي... وهو تحرى سبل القول الحق في 13 كتاباً أو جزءاً على نحو لم يتطرق إليه تاريخ الفلسفة في الغرب.

ويجوز القول إن شاغل فوكو الأول هو دراسة السمة الأناسية (الأنثروبولوجية) الفارقة التي تنيط الذاتية الإنسانية بالقول الحق. فمن غير داع ملزم بالقول الحق لا تستقيم ذاتية إنسانية ولا تتماسك. وهذا الداعي الملزم يتجلى في صور شتى. وسؤال فوكو نيتشوي، أي أن أشكال المقابلات بين الحق وبين خلافه ليست «حقيقية»، ولا ينبغي حملها على البداهة الأولى، فهي بدورها مصطنعة وناشئة من اعتباط أولي وبدائي. والحد الذي يبلغه السؤال ليس تشكيكاً. وهو لا يسأل: ما حقيقة ما أعلم أو أختبر أو أحسب؟ فحد السؤال عدمي: «كيف يمكن العيش إذا لم يكن شيء حقيقياً؟».

وما يثبته فوكو في «المراقبة والعقاب» (غاليمار، 1975) هو أن مناقشة النظام الجزائي، على رغم علاقتها الوثيقة بكتاب سيزاري بكَّاريا (1738-1794)، «في الجنايات والعقوبات»، تتخطى برنامج رجل القانون الإيطالي والإصلاحي. فالسجن ليس في عداد العقوبة التي يقترحها بكّاريا، وهو إجراء احترازي في أثناء التحقيق. ويشير محقق كتاب فوكو «النظريات والمؤسسات الجنائية»، برنار هاركور، في ملحق الكتاب، «ظروف المحاضرات»، إلى الملابسات التي حفتها وتواقتت مع مبادرة المحاضر وآخرين الى إنشاء «فريق الإعلام عن السجون»، في 1971، عشية إلقاء محاضراته، فأحد عوامل إنشاء الفريق استنفاد طرائق الكتابة التي وسمت ستينات القرن العشرين، غداة أيار 1968. ولكن فوكو لا يتخلى عن الكتابة الى احتراف النشاط السياسي والدعوي، بل يسأل: ما صورة الكتابة ومحلها من الإطار الجديد؟ وجواب هذا السؤال الأول هو فكرة «المثقف الخصوصي» أو «النوعي».

من جهة أخرى، يحدس فوكو في الحركات الكثيرة التي أعقبت أيار (مايو) 1968 (الحركة النسوية، القضاة والأطباء وغيرهم) تجديداً للمقاصد الفلسفية والسياسية التي ألهمته عمله «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» (1963، ثم 1972 غاليمار)، وهو رأى أن هذا العمل لم يفهم حق الفهم. وتوسل الى تثمير هذه المقاصد بإنشاء «فريق الإعلام عن السجون». وحمل مسألة السجن على الفحص والسؤال كان واسطته إلى حمل مسألة السلطة في مجتمعاتنا على الفحص والنظر. وفي محاضرات 1971- 1972، الصادرة اليوم في كتاب «النظريات والمؤسسات الجنائية»، يعزل فوكو مسألة السلطة من مسألة الدولة، ويتناول مسألة نشأة الدولة الحديثة على صورة دولة قمع تضطلع بقمع الحركات الشعبية.

فمع تمرد الأقدام العارية، في 1639– 1640، ببلاد النورمادي قامت انتفاضة أعلنت عداءها للسلطة. وبذلت السلطة قصاراها في سبيل إلغاء البعد السياسي من الانتفاضة وحذفه وإجلائه منها، وقصرها على حادثة جنائية وجريمة عادية. وعلى ضوء هذه الحال تطرح المسألة الاستراتيجية: ما السبيل إلى استعادة البعد المناهض للسلطة الذي قد يلابس فِعلاً يوصف بالجنائي أو الجرمي ذريعة الحط منه؟ وكثيراً ما سئل فوكو: «ما ينبغي عمله؟»، فأجاب هذه المرة على سبيل التملص: «ينبغي القيام بما قام به بكّاريا». فهو لم يحسب يوماً أن الإصلاحات هي تطبيق ما تتمخض عنه المطارحات النظرية، فالسجن ولد من إرادة القضاء على الانتهاكات الشعبية للقوانين السائدة، ولم يولد من استدلالات بكَّاريا المتماسكة والمنطقية.

وما يقترحه بكّاريا هو ضرب من الحساب العقابي الخالص. وهو يرى أن هذا الحساب وسيلة ناجعة في معالجة الجرائم وتقليصها الى حدها الأدنى. وهي طريقة في التفكير قريبة جداً من نهج الاقتصاديين المعاصرين. وهؤلاء يفترضون أن الأفعال كلها، وفعل المجرم على منوالها، هي من طبيعة اقتصادية. وعلى هذا، فالمجرم يريد تعظيم عائده أو منفعته الى أقصى حد، فهو يسوقه أملاً في الكسب، ويخاطر في سبيل هذا الكسب. ويرى بكّاريا أن تمثيل المخاطرة في صورة واضحة لا لبس فيها يؤدي الى الارتداع عنها، وهذا جواب المشكلة أو المسألة وحلها المناسب. ويضطلع اليقين بالعقوبة بدور حاسم في الاستنتاج. ويقوي هذا الدور القربُ الزمني بين الجناية وبين الجزاء، وينبغي على المجرم أن يفهم الرابط بين الجريمة وإثبات المسؤولية عنها، وبين إنزال العقوبة به من غير إبطاء ولا تأجيل. وعلى المجرم أن يتيقن من استحالة استفادته من عجز العدالة عن الإمساك به.

ولا شك في أن إيلاء فوكو انتباهاً قوياً إلى الفكر الليبرالي، وإلى افتراضه العقلاني أن الأفراد يقدمون على ما يقدمون عليه أو يعزفون عما يعزفون عنه بناءً لمعايير حسابية. وحاول فهم الفكر السياسي الذي صاغته الليبرالية الجديدة، وسمتها الغالبة هي إرساء أحكامها على علل اقتصادية في المرتبة الأولى. وفي المجال الجنائي، نبه فوكو إلى ما يميز فكر القرن الثامن عشر الليبرالي من الليبرالية الجديدة الأميركية على النحو الذي يبلوره غاري بيكر على الخصوص، فالليبرالية الجديدة الأميركية تقترح نظرية في القانون والحق تخالف مثال زوجي القانون– الضبط الذي توقعه فوكو، وهو أولى انتباهه هذه القضايا في وقت لم يكن هاييك، أحد منظري الليبرالية الجديدة، عاد ليحظى بالاهتمام مجدداً، ولم يكن رونالد ريغان ولا مارغريت تاتشر بلغا السلطة. وأما التخمين في ما إذا كان فوكو ليبرالياً أو غير ليبرالي، لا لعلة إلا دراسته الليبرالية الجديدة، فلا طائل منه ولا جدوى. نقلا عن الحياة

* محقق نشر محاضرات ميشال فوكو (1926- 1984) في كوليج دي فرانس مع الفيلسوف الايطالي ألساندرو فونتانا، عن «لوموند دي ليفر» الفرنسية، 26/6/2015، إعداد منال النحاس

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟