هناك حديث مفرط عن الإرهاب، تداعياته، حتمية مواجهته، لكن الأساليب التى لاتزال متبعة تقليدية، بيروقراطية، تعبر عن مجتمع تكلس عن التفكير البناء. الحرب على الإرهاب معلنة منذ عامين على الأقل، وسجل ضحاياه فى تزايد، ورغم ذلك لم نصل بعد إلى استراتيجية متكاملة طويلة الامد. الدليل على ذلك أن هناك ما يشبه الاقتناع الرائج فى أحاديث المسئولين، وكتابات المثقفين والخبراء والمحللين على أن مواجهة الإرهاب ليست أمنية فقط، ورغم ذلك لم تظهر إلى الآن سوى المواجهة الأمنية، وما يتردد عن وجود جهود أخرى لمكافحة الإرهاب ليست إلا محاولات مبعثرة، لا تجمعها أهداف واضحة، وإطار زمنى محدد، وهو ما يجعل المسألة برمتها تأخذ أحيانا شكلا احتفاليا، يخلو من التراكم المعرفي، والعمل الجاد، مثل المؤتمرات الخطابية، وبيانات الشجب والإدانة، والتصريحات الإعلامية النارية، وجميعها لا يشكل حالة مستمرة، أو جهدا يمكن البناء عليه أو علاجا طويل المفعول. طريقة قديمة اعتادت عليها «النخب» بغية التقرب من السلطة من ناحية والتملص من العمل المنهجى التراكمى الذى يستغرق وقتا وجهدا من ناحية أخرى.
تتطلب استراتيجية مواجهة الإرهاب تصورا متكاملا يشمل عدة مكونات: أمنية، تعليمية، ثقافية، دينية، تنموية، وسياسية تتلاقى معا، وتتكامل فى ظل برنامج عمل واضح، يجرى تقييم أدائه باستمرار، تعديله وتطويره، بما يحقق نتائج ملموسة يمكن قياسها، والبناء عليها.
لا أريد الخوض فى المواجهة الأمنية للإرهاب فهى العنصر الأبرز والظاهر، لكنى أريد التوقف أمام الأبعاد الأخرى التى تبدو غائبة أو مغيبة. التعليم به مشكلات كثيرة، لا مجال للحديث عنها، أهمها فى هذا الصدد هو غياب التفكير النقدي، والتكوين الثقافى الإنساني، وتطوير مفاهيم الشباب نحو المشاركة، والإسهام فى تقدم المجتمع، وحشو المناهج بأفكار تحض على التطرف. والحال لا تختلف كثيرا بالنسبة للثقافة التى تعانى من انحسار فى جمهور المتلقين لها، واقتصارها على فئة محدودة حبيسة معارف اكاديمية، ولغة استعلائية، وعدم قدرة على التواصل مع قطاعات عريضة من المجتمع، وهى أزمة ثقافية حقيقية فى بلوغ الحداثة التى تطلق طاقات الإبداع، وتجعل الثقافة فى متناول الناس، تعيد إليهم الكتاب، والمسرح، والموسيقي، وتحقق العدالة الثقافية بمعناها الواسع جغرافيا، وجيليا، وتحول المعارف الإنسانية إلى منتج ثقافى يصل للجمهور العام مثلما يحدث فى الدول المتقدمة. العبرة ليست فى وجود مراكز ثقافية، مغلقة أو عديمة الكفاءة أو مقصورة على جماعة بعينها ممن يطلق عليهم «المثقفون»، ولكن فى وجود مؤسسات ثقافية منتجة لها حضور شعبي. أما المؤسسات الدينية، فهى لها اعتبارات معقدة، لا تزال تتحرك فى المربع القديم، غير قادرة على تطوير الخطابات الدينية تتشابك مع الحياة، وتعيد الطابع الإنسانى للعلاقات بين المواطنين، وترقى بالقيم فى المجتمع. مما يثبت ذلك تجمد المنتج الديني، وعدم قدرة المنتجين على تقديم خطابات دينية تربط بين الدين والحرية، الدين والتنمية، الدين ومكافحة التمييز والفقر، باختصار تربط بين الدين والتحرر الإنسانى بما يحد بين الفصل الجامد بين خطاب دينى تقليدى ينحصر فى الشعائر، وبين مجتمع يموج بالتغييرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التى لا تجد اجتهادات جادة جريئة للتعامل معها. هنا نصل إلى بيت القصيد، أى التنمية، من خلال تعبئة جهود المواطنين على المشاركة فى تغير نوعية الحياة، وتولد لديهم الأمل فى التغيير. كل ذلك فى إطار مجتمع سياسى يقوم على المشاركة، واحترام الحقوق والحريات، الشفافية ومحاربة الفساد، وتوسيع المجال العام أمام مشاركة المواطنين.
هذه هى وصفة التقدم فى المجتمعات التى خطت على طريقه، وما من حل لمواجهة الإرهاب سوى المضى بكثافة على طريق التقدم، بما يجذب قطاعات عريضة من المواطنين نحو تعليم نقدي، وثقافة فى متناول الأيدي، ومشاركة مستمرة فى جهود التنمية، وتطوير نوعية الحياة فى المجتمع. التعليم الراكد، والثقافة النخبوية المتكلسة، والتنمية الفوقية التى لا تعرف المشاركة، وشعور المواطن بالعجز عن تغيير المجتمع جميعها تمثل بيئة مستمرة حاضنة للإرهاب، تدعم بقاءه، وتجعل اصطياد الشباب سهلا ميسورا، فهم منتج نظام تعليمى بلا وعى نقدي، لا يعرفون شيئا عن الثقافة، ويشعرون بالتهميش الاجتماعى والسياسى فى مجال عام يزداد ضيقا وانكماشا يوما بعد يوم، أى بيئة أفضل من هذا لإنتاج متطرفين، ساخطين غاضبين، مشروع إرهابيين؟
الأزمة فى غياب البحث الاجتماعى الذى يواكب التغيرات المستمرة، ويبدع فى التعامل معها، وفى وجود حكومة مسكونة بالأزمة، لكنها تلجأ إلى الاحتماء بالحلول الأمنية، وتعجز عن وضع خطة تقدم شاملة لمواجهة الإرهاب، تريد أن يكون المواطن حذرا «أمنيا»، لا أن يكون «واعيا اجتماعيا»، وهى معيار التفرقة بين مجتمع راكد وآخر متقدم. إذا ظلت الحال على ما هى عليه، فإن المجتمع سيظل يقدم السند لبقاء الإرهاب ذاته بارتباكه، وتعثره، وتمسكه بالأساليب القديمة التى تجاوزها الزمن، وأفقدتها ثورة المعرفة أى أهمية. من هنا فإن وجود رؤية متكاملة أو استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب، لا يهدف فقط إلى مواجهة هذه الظاهرة ولكن إلى صناعة التقدم، وهى قضية صعبة، وتستغرق وقتا طويلا، لكنها لا غنى عنها إذا أردنا مواجهة جادة مع الإرهاب. نقلا عن الأهرام