تبدو صور الأشخاص الملونين الذي يُردَوْن في أميركا، أكثر فأكثر، وكأنها خارجة من أفلام الحرب حين يطلق أبطال بيض ذخائر بنادقهم على عدد لا يحصى من الغرباء. ولا يمضي أسبوع من غير أن تبلغنا صور سقوط سود وخلاسيين وأميركيين لاتينيين برصاص قوات الشرطة أو من يزعم أنه يمثلها. وسواء كانوا يمشون في الشارع أو يُصلّون في دور العبادة أو يتسوّقون في السوق أو يركبون سياراتهم أو يلعبون في المنتزهات، يُحكم عليهم بالموت حكماً يصدر وينفّذ في ثوانٍ قليلة.
ومشاهد الحرب هذه هي كذلك حرب صور. فشهادات أجهزة التصوير والهواتف الخليوية تدحض الرواية الرسمية. فيدرك الشعب التباين بين ما بلغه قبل عصر الهواتف الخليوية وكاميراتها وبين ما يرده من بعدها من صور. وهذه صارت مرئية أكثر، أي صارت في متناول الجمهور: وذيوع الصور صار أكبر، وانفلت من عقال قنوات (وسائل) النشر التقليدية، وهو يعرض على الملأ ما تستحسن بعض الأجهزة الرسمية أن يدفن مع القتلى. ومعركة الصور هذه هي معركة كبرى. فهي البينة البائنة على أن أميركا يشوبها، إلى اليوم، انقسام كبير بين البيض والسود. وهذه المعركة قد تساهم في تغيير واقع الأمور. ويقتضي مثل هذا التغيير عدم النظر إلى كل حادثة على أنها استثناء، فكل منها هي مرآة من مرايا النظام الذي تميط اللثام عنه. وعلى نحو ما هي الحال في غرف تظهير الصور، كل صورة تحمل الوجه الآخر للواقع.
ويقابل كل عنصر يظهر فيها عنصر يستتر ويخفى عن العين. فهذه الأشكال المرئية الجديدة تُخفي ما هو غير مرئي: أعداد أولئك الذين لم توثق العدسات موتهم أو جروحهم ولم تذع خبرها. فما هو عدد الضحايا الذين لم يخرج موتهم إلى الضوء (العلن) ويلفه الظلام الدامس (الأسود)؟ وما نراه هو رأس جبل الجليد.
ولكن ما يبدو أنه انقشاع في الرؤية حملته وسائل التواصل الجماعية قد يساهم في طمس النظام الاجتماعي - الاقتصادي والثقافي الذي ولدت منه هذه الحال. وقد نلتهي بـ «قشور» الصور، وننشغل بالصور السائلة التي تعرض على الشاشات - ولسان حالها: «اليوم ها هو في هذه اللحظة، والغد مضى» - عن جبه مشكلات هذا النظام. فندور في دائرة مغلقة وفي دوامة الدورة نفسها. ويخفي شريطُ صور الملونين الذين يسقطون برصاص رجال الشرطة شريطَ صور الملونين الذين يسقطون بوتيرة أبطأ ضحية النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وهذا النظام يرسّخ العنصرية في المؤسسات. ولذا، تبرز الحاجة إلى تسليط الضوء على الصلة بين عنف الهجمات التي تنقلها وسائط الإعلام وبين عنف النظام، وهو عنف مخفي وراء الأبواب في الكواليس. ونظام السجون الأميركي هو أبلغ إنباء بأشكال العنف من الصور الإعلامية. ففي دولة الأحلام الأميركية، نسبة المسجونين إلى عدد السكان هي الأعلى في العالم. وعدد المساجين يبلغ مليونين، وشطر راجح منهم من الملونين. ووصف ميشال ألكسندر هذا النظام بنظام «الطبقات» (كاست). وهو مصيب. ومعدلات سجن المواطنين الأميركيين السود لا نظير لها إلا في نظام الإبرتايد، الفصل العنصري، الآفل في افريقيا الجنوبية. وأظهرت أعمال أنجيلا دايفيس أن نظام السجن الأميركي هو امتداد للرق (وحظر تعديل دستوري الرق ولكنه اعتبر أنه مشروع في حال العقاب) بواسطة وسائل اخرى. والنظام الجنائي الصناعي هو جزء لا يتجزأ من نظام اقتصادي يرجّح كفة الربح والمنفعة على كفة الإنسان، وعلى وجه الخصوص المواطن الملون الذي غالباً ما ينتمي إلى الطبقات الدنيا اقتصادياً. وصراع الطبقات لا ينفصل عن صراع الأعراق في الولايات المتحدة. والقواعد النيــوليبــرالية تخلّف أقسى الآثار في الأوساط الملونة منذ عقود. وإلى هذه الحرب الاقتصادية، ثمة بركان قد ينفجر ونيرانه تعسّ عناصرها تحت الرماد: عسكرة الشرطة والمجتمع المدني وممثلي هيمنة البيض - وهؤلاء يرون أنهم قوة عسكرية رديفة - وشيوع حمل السلاح والخطاب العنصري الــشائع وأساطير الحلم الأميركي المزعوم، وانقسام الحيّز المديني إلى حارات تعزل الملوّنين وتجريم ضحايا النظام القمعي. نقلا عن الحياة
* فيلسوف ودارس اجتماعيات فرنسي - أميركي، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 29/6/2015، إعداد منال النحاس