المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

أزمة مستمرة: الدولة والمثقف ....هل من جديد؟

الأربعاء 05/أغسطس/2015 - 12:16 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. محمود عبد الله
قرر وزير الثقافة الجديد عدم التجديد لعدد من القيادات الثقافية في مواقعهم. وقد كان ذلك تباعًا. إذ بدأ الوزير بعدم التجديد لكل من مدير المركز القومي للترجمة، ورئيس المجلس الأعلى للثقافة. وأخيرًا، قرر عدم التمديد لرئيس هيئة الكتاب، مما أعاد إلى الأذهان ما جرى من تغييرات همّ بها وزير الثقافة في عهد الإخوان، حين حاول إجراء تغييرات في ذات المواقع، متذرعًا بعدة ذرائع، كان على رأسها عدم ربحية إصدارات السلاسل والأعمال المنشورة عن الوزارة ومؤسساتها. فما كان من المثقفين أن تعود بهم الذاكرة للواقعة الأولى، فتوجه عدد منهم لملاقاة رئيس الوزراء والمطالبة بإقالة الوزير.
إن قراءة مشهد هذه الأزمة توحي بعدة قضايا أساسية: طبيعة علاقة الدولة بالمثقفين، ومن يدير الثقافة في مصر، ودور الدولة في دعم الثقافة، ومدى وعي الدولة بدور الثقافة في عملية التنمية ومواجهة الإرهاب، وآليات تخصيص مقعد وزارة الثقافة.
يهيمن الأدباء والمبدعين على أعمال وأنشطة الثقافة في مصر
أولا: مَن هم المثقفون؟
إن الأمر بالغ الأهمية الذي يمكن ملاحظته على حقل الثقافة هو أن الأدباء والمبدعين هم الذين يهيمنون على أعمال وأنشطة الثقافة في مصر. وبطبيعة الحال لهذا أسبابه التاريخية التي تتعلق بأن مفهوم المثقف العام كان أكثر ارتباطا في تاريخنا المعاصر بالأديب، وليس الفيلسوف ولا العالم. بل إن الأدبية والانتماء لعالم الأدباء هما اللذين يجعلان من العالم والفيلسوف مثقفا معترفا به. ودون شك أن مفهوم المثقف يتسع لأشكال متنوعة وعديدة من المهن الرمزية التي تستخدم الرموز والعلامات وسيلة لها في التعبير، إذا أخذنا بالمعنى الأنثروبولوجي، أو بواحد من تجلياته.
والواقع أن المسألة لها جذور تاريخية في تأسيس الجمهورية الأولى، حيث كان وزير الثقافة وقتها فنانا تشكيليا ينتمي للمؤسسة العسكرية، وهو الوزير ثروت عكاشة. استطاع الرجل أن يضع سياسة ثقافية، أقام لها مؤتمرا عاما، وأدار حولها نقاشا. ومثلت تعبيرا عن المرحلة، حين هدفت إلى جعل الثقافة الرفيعة بين أيدي الفقراء، عبر مد شبكة كبيرة من قصور وبيوت الثقافة في المدن والقرى. وهو ما جعل الثقافة بهذا المعنى مقتصرة على "فنون القول والأداء"، وليست الثقافة الحديثة باتساع آمادها، حتى أصبح العمل الثقافي عملا منتجا للمبدعين في صنوف الأدب والموسيقى والمسرح، وليس منتجا للفلاسفة والمفكرين. ولم يقتصر الأمر على الوزارة فقط بل وامتد إلى المجتمع المدني، وبالتحديد إلى اتحاد الكتاب، الذي ترأسه في البداية الروائي يوسف السباعي، الذي رآه أحد الباحثين كممثل لسلطة يوليو في عالم الكتاب والمثقفين. وتواصل التقليد حتى لحظتنا الراهنة، فآخر رئيس للاتحاد شاعر وناقد.
الأمر ذاته ينطبق على طبيعة اهتمامات النشر داخل الوزارة، وفي المجتمع المدني. فالناظر في إصدارات الهيئة العامة للكتاب، وهيئة قصور الثقافة، وفي غيرها من المؤسسات المنوط به مهمة النشر، تهيمن الأعمال الإبداعية الأدبية والفنية. بل إن الغلبة للفنية، على نحو يبدو فيه الأمر وكأن المسألة هي تدشين متلقين للأدب، ومبدعين جديد. ولعل هذه المهمة واحدة من بين مهمات عديدة يخول للوزارة القيام بها. وتنطبق الحال على دور النشر الصغيرة الخاصة، التي استطاعت أن تهز عرش دور النشر الكبيرة والعامة، فهي الأخرى لا تغامر بنشر الأعمال الفكرية أو العلمية أو الأكاديمية المتخصصة في فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية ولا الترجمات، إلا في حدود ضيقة تتضمن لها الرواج.  
    ولذلك قلما جاءت القيادات من خارج الحلقة الأدبية والفنية، إلا إذا كان القادم والوافد له صلة بالأدب والفن، عبر الدراسة أو الكتابة. ولعل النظرة الفاحصة يمكنها أن تجد تمييزات أخرى داخل حقل الثقافة تحتاج هي الأخرى للمراجعة والتمحيص. ومنها غلبة الأكاديميين على المواقع الثقافية، عبر تطبيق نظام الانتداب، وهو ما أدى لبناء شبكة مصالح واسعة في عملية النشر. ومنها كذلك التمييز بين المثقفين ذوي الياقات البيضاء رواد بعض المؤسسات التي لا تتعامل مع الجمهور العام، والمثقفين ذوي الياقات الزرقاء ممن يتعاملون مع مؤسسات ذات اتصال مباشر بالجمهور العام كما هي الحال في الهيئة العامة لقصور الثقافة.
إن هذا النوع من الانقسام قد تسبب في ضعف وهشاشة الحقل الثقافي في مصر. وهو ما ترتبت عليه أزمات أكبر، أهمها غياب ما يمكن تسميته بالميسر الثقافي. والمفهوم قد يبدو غريبا. ولكنه أقرب لمفهوم المثقف العضوي. هو مثقف قادر على ملأ الفراغ الذي يتركه الأكاديميون بغيابهم عن الساحة العامة. فعندما أخذ الأكاديمي بمزاحمة الناشط والميسر الثقافي في المؤسسات العامة المعنية بالثقافة، حاملا معه أجهزته وأدواته الاصطلاحية المعقدة، دون محاولة منه تطبيق الممارسات التحويلية التي يقوم بها الميسر الثقافية، لتحويل الأفكار العميقة الصعبة إلى أفكار يستطيع المتلقي العادي تلقيها.
وربما اتصالا بما سبق يمكن القول بأن دخول الأكاديمي لحقل عمل الميسر الثقافي، قد نتاجا طبيعيا لعملية تسييج الثقافة. فقد أسفرت المعارك الفكرية التي خاضها المثقفون ضد الإرهاب عن نتيجة فادحة، وهي اغتيال المثقف فرج فودة، فبات قارا في ذهن المثقف صعوبة الخوض في القضايا العامة مع عدم قيام الجهات الرسمية بالحماية اللازمة في أي بلد حديث يحترم حرية التعبير، فما كان منه إلا أن يحتمي بأدواته المعرفية، وبكوخه الخاص كأكاديمي، لا يغادره، طالما أن المتلقي نفسه لا يعدو أن يكون جملة الموظفين، أو الجماعة المبدعة القارئة النهمة، أو طلبة الجامعة.
الدولة المصرية لا تعتمد في عملية الاختيار سوى على أهل الثقة، وأن القوى المدنية ليس لديها القدرة على تقديم وفرض أسماء بعينها تقود العمل الثقافي وتحركه
 ثانيا: رؤية الدولة للعمل الثقافي
إن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا هو كيف يتم اختيار وزير الثقافة. لعل عملية اختيار الوزير مسألة شديدة التعقيد، وتعتمد على عدة مصادر. منها مثلا اللجوء لذوي الاختصاص في حالة الاعتماد على وزير تكنوقراط، أو الاعتماد على مشاهير حقل معرفي بعينه تعمل به الوزارة، أو أحد أعضاء الحزب الحاكم الذي لديه خلفية بملف عمل الوزارة، أو الارتكان إلى شبكة المعارف الشخصية للمسئول، أو الرهان على الأجهزة السيادية.
وفي كل الأحوال، فإن الاعتماد على أحد هذه الطرق في الاختيار يحدد ضمن محددات أخرى طبيعة الدولة، والقوى التي توجه عملها.
 لقد جاء الوزير ثروت عكاشة من داخل الضباط الأحرار، وتم اختياره دون غيره لامتلاكه رؤية لمشروع ثقافي، نرى ملامحه على الأرض، وما زلنا نعول أملنا على بقاياه، فيما جاء فاروق حسني أيضا من شبكة المعارف الشخصية لزوجة الرئيس الأسبق. وجاء جابر عصفور بناء على شهرته الأكاديمية والبحثية، وتوليه السابق لمناصب داخل الوزارة تارة كمدير للمركز القومي للترجمة، وكأمين عام المجلس الأعلى للثقافة. وفي كل الأحوال لم يكن هناك أي دور يذكر لا للأحزاب، ولا لاتحاد الكتاب، ولا لأي مكون من مكونات المجتمع المدني في تولى المنصب الرفيع. مما يوحي بأمرين، أولهما أن الدولة المصرية لا تعتمد في عملية الاختيار سوى على أهل الثقة، وأن القوى المدنية ليس لديها القدرة على تقديم وفرض أسماء بعينها تقود العمل الثقافي وتحركه وتساهم في ازدهاره.
ومن جهة أخرى تتعامل الدولة مع القطاعات غير المنتجة تعاملا لا يخلو من ازدراء، وتقليل لقيمتها. فهي لا تدرك العوائد غير المباشرة والعميقة والمهمة للثقافة كمخزون لا مادي داعم للهوية ومكون لها، ومؤسس للوجود الحضاري. ولعل ذلك كان واضحًا في النقاش الذي جرى بين الوزير الجديد (عبد الواحد النبوي) ورئيس هيئة الكتاب المنتهية فترة عمله. فقد دار نقاش حول الربحية، لا يمثل في حد ذاته موضوعا يستحق النظر. فدخول الدولة في حقول حساسة مثل التعليم والصحة والثقافة والإعلام، ينبغي أن تحسب عوائده لا من خلال حساب العائد والأرباح، بل إن منطق الحساب مختلف بالكلية، وله مؤشراته التي غابت تماما عن الصراع موضع المناقشة. وهو ما كان قد أدركه ثروت عكاشة باكرا، حين كتب بمذكراته أن قياس العوائد على المشروعات الثقافية لا ينبغي أن يحتكم فيه للمعايير والمؤشرات الكمية التي يمكن لنا استخدامها في معايرة جودة وتميز وكفاءة العمل داخل قطاعات أخرى، كالاقتصاد والتجارة.
تتعامل الدولة مع القطاعات غير المنتجة تعاملا لا يخلو من ازدراء، وتقليل لقيمتها
ثالثا: هل لدينا سياسة ثقافية؟
إن المطلع على أوضاع الثقافة المصرية، يستطيع بقدر من الأناة أن يدرك أن ما لدينا ليس سياسة ثقافية. هو بالأحرى مرشدات لسياسة ثقافية. فمنذ ما قدمه ثروت عكاشة، ليس لدينا حقا ما يدل على وجود سياسة ثقافية، تتبعها خطط واضحة مجدولة بتوقيتات ومحددة بالموارد. ولعل هذا منعكس في التخبط الذي أصاب الوزارة في الوقت الحالي. فانظر مثلا إلى واقعة طرح إستراتيجية جديدة للثقافة المصرية، وما جرى من حولها من نقاش مخيب للآمال، من كافة الأطراف المشاركة، مع الأخذ في الاعتبار أن وضع سياسة ثقافية مسألة أكبر من مجرد مناقشة مجموعة من المثقفين لتصورات قابلة للتطبيق. فمعنى أن تضع سياسة ثقافية مسألة ترتبط بقدرتك على إدراك المطالب والاحتياجات الثقافية التي يطمح لها المثقفون وجمهور الثقافة من عموم الناس، ووضع إستراتيجية تلبي هذه المطالب، وطرحها بعد ذلك للنقاش المجتمعي.
ولعل الأزمة الأخيرة تبين لنا كم عدنا للخلف كثيرا. إننا نستعيد زمان ما قبل الثورة بامتياز. فالوزير الجديد يحق له بالفعل أن يجدد لمن يرغب أو أن يقيل من يريد، فهذه تدخل ضمن اختصاصاته التي ينبغي ألا تراجع. ولكن مع ذلك، فإن عملية الإحلال والتجديد ينبغي أن تتم في ضوء اشتراطات أساسية أهمها وجود سياسة ثقافية نابعة من مطالب الجماعة الثقافية نفسها، بحيث يكون تغيير القيادات مبنيًا على طبيعة السياسة ومتطلباتها، وليس أملا في صناعة شبكة مصالح جديدة، كما كان الحال وستكون.
إن عملية الإحلال والتجديد ينبغي أن تتم في ضوء اشتراطات أساسية أهمها وجود سياسة ثقافية نابعة من مطالب الجماعة الثقافية نفسها
وفي الآن ذاته يمكن الخروج بعدد من الاستنتاجات، أولها أن الوزير الجديد لا يملك رؤية ثقافية نابعة من الأولويات المطروحة ثقافيا على أجندته، بله يواصل الإستراتيجية القديمة في تغليب متطلبات النظام السياسي الحاكم على حساب مطالب المثقفين أنفسهم، وهو ما يجعل المسافة بين الدولة والمثقف واسعة. ثانيها أن الوزارة الحالية تعتمد أسلوب الاختيار من داخل دولاب العمل، بحيث يتم الاختيار بناء على الخبرات السابقة في العمل الثقافي. ورغم أن هذا عامل هام للغاية لإدارة العمل الثقافي، فإن اختيار وزير يدرك طبيعة وآلية وعلاقات العمل، ليس كافيا، إذ إن ذلك يجعل منه آلة تتحرك في كل اتجاه، دون تحديد دقيق للتوجه والمسار. وثالث الاستنتاجات، أن الجماعة الثقافية منقسمة ذاتيا، ولا تمتلك قوة عملية على الأرض تستطيع من خلالها فرض إرادتها ورؤيتها على الدولة، مما يتيح للدولة إمكانية التلاعب بهم، واختيار أردأ العناصر وأقلها موهبة لإدارة العمل الثقافي، وتوجيهه بما لا يخدم المصلحة الوطنية، والأهداف الأساسية لثورة يناير. ورابعها أن المثقفين لم يتشكلوا بعد كجماعة قادرة على إنتاج التنوع، فلا تزال اللبنة الأولى لصناعة المثقف هو الحقل الأدبي، بينما تخمل باقي الحقول عن الإنتاج والمشاركة الفاعلة في حركة المجتمع. علاوة على الخطأ التاريخي بالابتعاد عن الجمهور العام، إلا من خلال الفاعليات القائمة في المؤسسات الأهلية والخاصة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟