بعض المآكل و «الصحون»، مثل شرائح البطاطا التي تطبخ مع الكريما أو مثل اللازانيا أو البطاطا في الفرن، لا تتصور ولا يتصور مذاقها من غير الأواني الزجاجية المعروفة بـ «البيريكس» (شأن الأواني المعدنية المعروفة بـ «تيفال»). و75 في المئة من المطابخ الفرنسية، وربما الأوروبية من الجدة إلى الحفيدة ومن أقرب الجارات إلى أبعدهن، مجهّزة بهذا الصنف من الأواني. فآنية البيريكس تحتمل حرارة فرن تبلغ 220 درجة مئوية، على قدر ما تحتمل الماء المجلد، من غير أن يصيب مادة الطعام ضرر أو مكروه. وتتخذ أواني البيريكس كل الأشكال أو القوالب المرغوبة: الشكل المسطح، أو شكل القصعة المقعرة، أو شكل الطنجرة.
ولا يعود استعمال أواني البيريكس إلى البارحة أو الأمس القريب. فهي بلغت من العمر 100 سنة تامة. ففي 1915، بالولايات المتحدة، طرحت شركة السكة الحديد على مصنع الزجاج كورنينغ مسألة عويصة: مصابيح الإضاءة الكهربائية في القطارات سرعان ما تنفجر حين تبلغ حرارة المحركات درجة تفوق المئة، أو حين يطول احتكاك العجلات بخطوط السكة. وتنفجر مصابيح الإضاءة حين تمطر أو يتساقط الثلج. فينبغي، بناء على هذا، صنع زجاج لا تودي به الفروق الحادة بين مستويي الحرارة ويصمد إزاء تقلبات الطقس بين الحر والبرد الشديدين.
فذهب الظن بالمهندسين إلى مادة الكوارتز، ولكنهم استبعدوها لغلاء ثمنها. فاستلهموا بحوث كيميائي ألماني مكنته من صناعة آنية شرب متينة من مادة النونيكس، وهي خليط من زجاج ومن أوكسيد مادة البور أو البورون. واسمها العلمي هو «بوروسيليكيْت». ومذ ذاك، وسَع القطارات إضاءة مصابيحها، من غير خشية انفجارها، في أصناف الطقس كلها. ولكن بيسي ليتيلتون لم تنفك تشكو تفسّخ أوانيها الزجاجية في فرنها. ولما كان زوجها، جيس ليتيلتون، مهندساً فيزيائياً يعمل في مختبرات شركة كرونينغ، وكثيرَ الكلام على عمله وقضايا العمل في الشركة، خطر لها أن تجرب قعر آنية من النونيكس في إعداد بسكويت سافوا تزمع طبخه، وربحت السيدة رهانها، وبلغت الكعكة درجة الاستواء والنضوج من غير تفسخ الزجاج. وجربت بيسّي صحوناً أخرى، وحمل نجاحها شركة كرونينغ على صناعة أواني المطبخ المتفرقة.
وبقي البحث عن اسم يسمى به الزجاج الجديد. ويزعم بعضهم أن اسم «بيريكس» قافية على لفظة «نونيكس». ويزعم آخرون أن الاسم يدمج «بيرو» (وتعني النار في اليونانية) و «ركس» (وتعني الملك في اللاتينية). ونصح صنّاع بيريكس والمروجون الزبائن بصنع الحلويات في الأواني الشفافة القعر. واحتجوا لسلعتهم بشفافية زجاجها وتخففها من الروائح بعد الطهو، وبلوغها 200 درجة مئوية من غير تشقق، على خلاف الأواني المصنوعة من الفولاذ أو من الفخار، وبقايا روائح الطعام الثاوية في ثناياها والجراثيم المضرة بالمعدة والأمعاء.
وسرعان ما اجتازت أواني «البيريكس» الأطلسي، في العشرينات، وحطت رحالها في فرنسا. وكان المهندس أوجين جونتي اختبرها في مسقطها، وحملها معه إلى سان غوبان، مصنع الزجاج الفرنسي الكبير. وكان العمل يقتضي من العمال النفخ في زجاج ذائب تبلغ حرارة فرنه 1400 درجة مئوية. وراج من السلع الزجاجية المصنوعة من البيريكس مصاصة الحليب. فتنظيفها يسير شأن تعقيمها. وفي مصنع سان غوبان ببلدة بانيو-سور- لوان، استبدل النفخ في الزجاج بآلة نصف أوتوماتيكية. وعرضت الأدوات والأواني المصنوعة في أرجاء أوروبا كلها.
وانتقل مصنع «البيريكس» إلى شاتورو، حيث ولد جيرار ديبارديو الممثل السينمائي الشهير، واستقر هناك منذ 45 سنة. وكانت شاتورو تستضيف أكبر قاعدة أميركية جوية بأوروبا، إلى 1966، حين أغلق الجنرال ديغول قواعد الأطلسي، وأخرج فرنسا من الحلف. فخسرت البلدة 8 آلاف جندي أميركي كانت تعتاش من مصروفاتهم. وعوضت البلدية رحيل هؤلاء من طريق استدراج الصناعات إلى إنشاء المصانع بأراضيها وجوارها. ومن هذه الصناعات كورنينغ الأميركية للزجاج. وأنشأت هذه مصنع «بيريكس» في 1970، واستقدمت الرمل الذي تَصنع الزجاج منه من فونتينبلو. وينتج المصنع 35 آنية في السنة، ويعمل فيه 450 عاملاً، ويصدر نتاجه إلى أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا. نقلا عن الحياة
* صحافي، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 4/5/2015، إعداد منال نحاس