تمدد القطاع العسكري الخاص والمرتزقة وخطرهما على النظام العالمي
في 2008، توجهت الممثلة والناشطة في حقوق الإنسان ميا فارّو إلى الشركة الأمنية الخاصة «بلاكووتر» وبعض منظمات حقوق الإنسان، وسألتها الاقتراح التالي: هل في الإمكان استئجار قوة مقاولين عسكريين من شركة خاصة لإنهاء الإبادة في دارفور السودانية؟ وطُلب من شين ماكفايت، الذي كان، إلى وقت قريب مقاولاً عسكرياً في شركة «دينكورب انترناشنل»، الرأي. وهو في كتابه «مرتزقة العصر الحديث»- وهو كتاب يحث على التفكير في بروز الجيوش الخاصة- أن خطة إنهاء مثل هذه الإبادة بسيطة. «فتتدخل بلاكووتر عسكرياً في دارفور وتنشئ ما يسمى جزراً إنسانية ومخيمات لاجئين تحرسها بي أم سي (شركة عسكرية خاصة) وتحمي المدنيين الهاربين من نيران الجنجاويد القاتلة». وسرعان ما ألغيت الخطة العسكرية الخاصة. فهي لا نظير لها في السابق وخطرة. ولكن الاقتراح هو دليل على ذيوع التوسل بالمقاولين العسكريين إلى عمليات عسكرية، وهو وليد الحربين في أفغانستان والعراق حين لجأت الولايات المتحدة إلى مقاولين وفوضتهم عمليات قتالية كبيرة نيابة عنها. وفاق عديد الشركات العسكرية الخاصة في ميدان القتال عدد نظيرهم من العسكريين النظاميين الأميركيين في الحملتين الأفغانية والعراقية.
وفي ذروة حرب فيتنام، اقتصر عدد المقاولين من شركات خاصة على أقل من 20 في المئة من الأميركيين المرابطين هناك. وارتفاع أعدادهم في أفغانستان والعراق كان جسر واشنطن إلى الانتشار العسكري السريع والبخس الكلفة. ولكنه أدى إلى سلسلة من الفضائح، أبرزها هو قتل مقاولي بلاكووتر 17 مدنياً في ساحة النسور في بغداد. وحكمت محكمة أميركية في نيسان (أبريل) الأخير بالسجن الطويل الأمد على أربعة من حراس بلاكووتر. ويسلط ماكفايت الضوء على احتمال تقويض المقاولين العسكريين في الشركات الخاصة النظام العالمي وزعزعته. وإلى اليوم، ثمة زبون يتيم هو الولايات المتحدة لهذه الشركات. ولكن لا شك في أن الأمور تغيرت وتتغير على وقع انسحاب أميركا من العراق وأفغانستان. ففي هذين البلدين يرجح، أكثر فأكثر، وزن الشركات الأمنية العسكرية الخاصة. وإذ تدخل دول أخرى، أبرزها الصين وروسيا، مجال المقاولات العسكرية الخاصة، تشرَّع أبواب سوق القوة في العالم. ويتوقع ماكفايت أن يعود العالم إلى العصور الوسطى حين كان المقاتلون «الخاصون» يحسمون مآل النزاعات، في وقت تقف الدول موقف المتفرج في الشؤون الدولية. ويغلب على هذا العالم «النيو – عصور وسطى» «نظام دولي متعدد الأقطاب. ولكن هذه الأقطاب ليست دولاً. فهي نظام مؤتلف من أقاليم تتداخل فيها السلطات العسكرية والولاءات. وهو يطمئن القارئ إلى أن النظام العالمي لن ينفرط العقد بل يميل إلى الفوضى المستدامة، عوض تذليل المشكلات. ولكن ما السبيل إلى تفادي أن يكرر العالم مشكلات البنادق المأجورة في العصور الوسطى؟ يرى ماكفايت أن الحل يقضي بالاعتماد على الـ»المقاولين العسكريين»، عوض المرتزقة الذين يبيعون قوة عملهم ومهاراتهم العسكرية إلى من يدفع أكثر، على خلاف المقاولين العسكريين الذين يدربون الجيوش عوض قيادتها ويساهمون في الاستقرار. وفي حرب الثلاثين عاماً، برز مقاولون عسكريون من أمثال ايرنست فون مانسفلد الذي أنشأ جيشاً في خدمة الأمراء الألمان الذين يحق لهم انتخاب إمبراطور الامبراطورية الرومانية.
ولكن ماكفايت إذ يصوغ استراتيجية جبه قضايا عالم مؤتلف من قوى عسكرية خاصة يسارع إلى التخلص من المبادئ التي تولي الدولة مكانة مركزية والتي وجهت دفة العالم على أحسن وجه منذ انتهاء حرب الثلاثين عاماً. وتقتضي أبرز التحديات التي تنتظر الأمن الأميركي في الأعوام المقبلة، من التغير المناخي إلى الإرهاب وصولاً إلى الأمن السيبرنيطيقي، المبادرة إلى تعزيز التعاون بين الدول. ويفاقم هذه المشكلات التأييد الأميركي، سواء كان مستتراً أم لا، لرفع القيود عن سوق القوة وبروز سوق حرة للقوة.
ويعرض ماكفايت دراستي حالة تتناولان المقاولين في العصر الحديث: في ليبيريا حيث لعب هؤلاء دور شركات عسكرية، وفي الصومال حيث أدوا دور المرتزقة. وبعض ما يرويه لم يُعرف من قبل. فإثر طي الحرب الليبيرية الأهلية الثانية في 2003، رغبت وزارة الخارجية الأميركية في أن يتولى الجيش الأميركي إعداد جيش جديد في ليبيريا يحل محل الجيش القديم الضالع في النزاع الأهلي. ولكن البنتاغون كان منشغلاً في أفغانستان والعراق. ولم يسع أميركا الوقوف موقف المتفرج في ليبيريا وتركها من دون جيش. وهي درجت منذ 1908 على تعزيز المؤسسة العسكرية في هذا البلد. واضطرت واشنطن إلى تفويض «إعادة بناء» الجيش الليبيري إلى القطاع الخاص، وإلى شركة «دينكورب» على وجه التحديد. وكان ماكفايت على رأس مشروع «دينكورب» ليبيريا، وكتب: «للمرة الأولى منذ قرنين تستأجر دولة سيدة شركة خاصة لتشكيل القوات المسلحة في دولة سيدة أخرى». وإلى اليوم، تكلل المشروع بالنجاح، وأفلح جيش ليبيريا الجديد في إرساء السلام ولم يخرج على طاعة الحكومة، وشارك في قوات حفظ السلام في مالي في 2013، بعد عقد على انتهاء الحرب الأهلية الليبيرية. وجندت «دينكورب» رجالاً لم يسبق لهم انتهاك حقوق الإنسان. وإلى التدريب، وفرت لهم دروساً في الحقوق المدنية. وهذه الشراكة بين القطاعين الخاص والعام هي نموذج إيجابي ساهم في إرساء الاستقرار.
وعلى خلاف النموذج الليبيري، برز نموذج كارثي في الصومال. فإثر انسحاب القوات الأممية في 1995، غلب التطرف على السياسة. واستأجر كل من بوتلاند وأرض الصومال، وهما إقليمان شبه مستقلين في الصومال، شركات خاصة أمنية للمساهمة في مكافحة القرصنة على سواحلهما، شأن الحكومة المركزية الصومالية. وتعاقدت وزارة الخارجية الأميركية مع «دينكورب» لتدريب قوات سلام من أوغندا وبوروندي وتدريبها وتسليحها، ومولت شركة «بانكروفت غلوبل ديفلوبمنت» لتدريب قوات أفريقية على مكافحة منظمة «الشباب». ولكن أبرز المشكلات في الصومال هو الافتقار إلى دولة. لذا، عجزت الولايات المتحدة وغيرها من الدول عن تشكيل جيش وطني شرعي، على ما فعلت في ليبيريا. ويشجب ماكفاين السياسة الأميركية في الصومال، من جهة، ويشيد بها من جهة أخرى. «فالسوق الحرة في الصومال التي تغلب عليها المرتزقة ساهمت في تفاقم الاضطرابات عوض إرساء الاستقرار...» ولكنه يرى كذلك أن «الفوضى المستدامة» قد تسلط الضوء على سبل إرساء الاستقرار في غيرها من الدول الفاشلة.
وترك القطاع العسكري الخاص على غاربه في العالم قد يؤدي إلى سوق قوة حرة على ما هي الحال في الصومال أو إلى قوى مرتزقة ضارية مثل تلك التي سادت في إيطاليا العصور الوسطى وحملت مكيافلي على الدعوة إلى اعتماد الأمير على جيشه الخاص. فبروز سوق قوة على غاربه من غير قوة تؤدي دور الوسيط والرقيب هو الجسر إلى نزاعات لا نهاية لها، في وقت يرتجى الربح من الحروب. نقلا عن الحياة
* أستاذة السياسات الدولية والاقتصاد في ميدلبوري كوليدج وصاحبة «أمة يجمعها عقد: تنقيل القوة الأميركية ومستقبل السياسة الخارجية»، عن موقع «فورين أفيرز» الأميركي، 16/6/2015، إعداد منال نحاس