بات العثور على خيط ناظم لتنـــاسل الوقـــائع القتــــاليــة والسيــاسية مهمة شاقة جداً على أي مراقب. الفــوضى العارمة والمصحوبة بأشكال تذرر لا حدّ لها، تضعنا أمام ترسيمة متاهة لا قعر لها ولا قرار. وحدهم أصحاب المواقف الجاهزة والأهواء المؤدلجة يجدون سياقاً ليس للجموحات العبثية الجارية فحسب، بل كذلك للجموحات القادمة. وقد تكون سورية اليوم، أكثر من غيرها، حقل تجارب لكل الأهواء التي يمكن تخيلها.
زحمة المبادرات واللقاءات والزيارات الواعدة باجتراح مخرج سياسي للأزمة السورية المستفحلة ومجازرها المتصلة صارت أشبه بعمليات رقص عبثي حول الذات، كي لا نقول جعجعة بلا طحين. إذا كان هذا التوصيف ينطبق على زيارة وزير الخارجية الإيراني لدمشق وعلى ما أشيع عن مبادرات روسية وإيرانية، فإنه ينطبق أيضاً على مناورات تركيا الأردوغانية. فسعيها الحثيث لانتزاع موقع حاسم في أي صيغة حل قد لا يفضي إلا إلى المزيد من الفوضى. وليس التفجيران الانتحاريان اللذان نفذهما «داعش» ضد فصيل «أحرار الشام» والإجهاز على عدد من قادته خلال اجتماع عسكري إلا أول الغيث. وقد فعل «داعش» هذا رداً على ترحيب الفصيل المذكور، ومعه جبهة النصرة، بالتوافق التركي - الأميركي على إقامة منطقة أمنية عازلة بطول 90 كلم وعمق 45 كلم.
مع أن التوافق الذي يطنطن به موظفو الخارجية التركية محاط بالغموض، فإنه يرفع كستارة على مقايضات ومناورات صعبة. هناك بالطبع مؤشرات على تصدع العلاقة بين «داعش» والسلطة التركية. وتسعى أنقرة إلى مقايضة ابتعادها عن «داعش» بتحجيم القوى الكردية الأكثر استقلالية وهي قريبة من حزب العمال الكردستاني. ما تريده حكومة أردوغان هو دفع الإدارة الأميركية، المتعاونة مع الأكراد في الحرب على «داعش»، إلى الموازنة بين تحالفها مع القوى الكردية البارزة وبين حليفها التاريخي والكامل العضوية في حلف الأطلسي. نحن أمام لعبة معقدة تحرج الجميع لأن رهانات الاحتواء التي يعقدها كل طرف، خصوصاً الطرفين الأميركي والتركي، قد تؤدي بمقتضى أفعال المواجهة ومنطقها إلى نتائج غير محسوبة.
يتجه الوضع في تركيا نحو تعقيدات وتشابكات لا تقتصر على البعد السياسي، إذ تطاول أيضاً الخطاب الأيديولوجي للفكرة القومية أو الوطنية. وتذكر هذه التعقيدات إلى حد ما بتلك التي عرفتها تركيا عشية الحرب العالمية الأولى مع صعود «جمعية الاتحاد والترقي» ذات الأيديولوجية الملتبسة والمترجحة بين مفهوم السلطنة العثمانية ومفهوم الأمة الحديثة. لقد قيل إن الجنود المقاتلين ذهبوا إلى الحرب حاملين ولاءهم للوطن العثماني وسلطنته لكنهم رجعوا بصفتهم أتراكاً قوميين متشبثين بالأمة الحديثة لا بالسلطنة. هذا التوصيف لا يخلو من صواب وإن كان تدبيجه جاء على صورة المثال القومي التركي الحديث والعلماني الذي جسده مصطفى كمال أتاتورك.
يبدو اليوم أن الأدوار والمواقع اختلفت، خصوصاً مع وصول حزب العدالة الإسلامي إلى قمة الجمهورية العلمانية، ومحاولته احتواء القضية الكردية. لكن تشابكات الخريطة الايديولوجية لتركيا الحديثة والتي شهدت ما يشبه الحرب الأهلية بين القوميين العلمانيين الأتاتوركيين وبين القوميين الدينيين الموالين للسلطان الذي وافق مكرهاً على معاهدة سيفر في أعقاب الحرب ودخول القوات البريطانية إلى قلب عاصمة السلطنة. بعض الفرق القتالية المؤيدة للسلطان حملت أسماء تشبه أسماء فصائل إسلامية تتكاثر اليوم في سورية وليبيا والعراق مثل «جند الخلافة».
وفي خلفية هذه التسميات تكمن قراءات وتمثيلات متعارضة ومتداخلة في آن لماهية الفكرة القومية والمبدأ الذي تنهض عليه والروابط التي ينبغي ترجيح كفتها بمقتضى هذا المبدأ. يرجح في الظن أن تركيا مقبلة على عملية خلط أوراق ستطاول حزب أردوغان بالذات.
في خاتمة كتابه المرجعي عن الفكر العربي في عصر النهضة، يرى المؤرخ الراحل والمرموق ألبرت حوراني أنه كان في منطقة الشرق الأوسط حتى 1939 وبداية الحرب العالمية الثانية ثلاثة أنواع من القوميات. «وهي أنواع متداخلة، وإن انبثق كل منها عن مبدأ يختلف عن الآخر». النوع الأول، وفق التسلسل الزمني، هو القومية الدينية القائلة بأن على جميع أتباع الدين الواحد أن يكونوا جماعة سياسية موحدة. النوع الثاني هو القومية الإقليمية وكان مألوفاً بالأخص في البلدان القديمة والمستقرة من أوروبا الغربية. ويحتمل هذا النوع من القومية معنى «الوطنية» في قسم بارز من الأدبيات الحديثة والمستجدة وسط الاضطراب المتزايد في المنطقة. ذلك أنه، وفق الترجمة العربية لكتاب حوراني، «كناية عن الشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة من القاطنين رقعة محددة من الأرض والمتأصلي الجذور في حب هذه الرقعة». وكمثال على هذا الشعور الراسخ بالانتماء إلى جماعة مستقرة منذ زمن طويل في إقليم ذي حدود واضحة وتقليد متصل من الكيان الإداري أو السياسي القائم بذاته، يذكر حوراني مصر وجبل لبنان وتونس. وكان هذا النوع من القومية يستثير ذكريات البلد وسكانه في العصور القديمة، كالفراعنة والفينيقيين والحثيين. «وذلك لأن إعلان الانتماء إلى ماض قديم كان أحد السبل للتهرب من ماض أحدث، ولأن هذا الماضي الأحدث كان يمثل، في معظم أجزاء المنطقة، الاندماج في وحدات أوسع من القوميات، كالخلافة أو السلطنة العثمانية».
أما النوع الثالث والأقوى، وفق حوراني دائماً، فهو «القومية العنصرية أو اللغوية القائمة على الاعتقاد أن جميع الناطقين بلغة واحدة إنما ينتمون إلى أمة واحدة، وأن عليهم بالتالي أن يشكلوا وحدة سياسية مستقلة. وقد غدا هذا النوع، لحسن الحظ أو لسوئه، الفكرة السائدة في الشرق الأوسط، بحيث حلّ محل النوعين الآخرين، أو امتصّهما». ولم يغب عن بال المؤرخ المخضرم أن الأفكار السياسية لا تتصف غالباً بالنقاوة بل تكون ممتزجة بغيرها، بل حتى بنقائضها. ولم يفته أن يشير إلى أن «مضمون القومية لم يشتمل، في تلك الحقبة، إلا على القليل من الأفكار الدقيقة حول الإصلاح الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، مما يمكن تفسيره إما باللامبالاة، أو بأن معظم زعماء الحركة القومية والناطقين باسمها كانوا ينتمون إلى عائلات ذات مكانة وثروة أو ارتفعوا إلى هذه الطبقة بمجهودهم الشخصي. لكن يمكن تفسيره أيضاً بمناخ الزمن الليبرالي».
منظار المؤرخ حوراني يصلح لقراءة ظواهر صاخبة اليوم. نقلا عن الحياة