المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. نصر محمد عارف
د. نصر محمد عارف

صراع القيم والمصالح: الفارس والنخاس

الإثنين 17/أغسطس/2015 - 11:12 ص

منذ أن وُجِدَ الإنسان على ظهر الأرض وهناك قوتان تتجاذبانه، إحداهما تصعد به لأعلى، لعنان السماء، للمجد والسؤدد وحسن السيرة؛ وهى قوة المثل والمبادئ والقيم، والأخرى تتحالف معها قوة الجاذبية؛ ومن ثم تشد الإنسان إلى باطن الأرض، إلى الحضيض الأسفل، إلى الوضاعة والدونية؛ حيث الشهوات والغرائز والمصالح. ولأن الإنسان يحتوى فى داخله على هاتين القوتين: ففيه أولاً الشهوات والغرائز التى تعزز قوة المصالح، وتعلى وزنها، وتدفع الإنسان دفعا للجرى وراءها من أجل تحقيقها، وإشباع شهواته المتعددة المتنوعة؛ سواء أكانت شهوات مادية مثل المال، أو شهوات معنوية مثل السلطة والزعامة وحب الظهور. وفيه ثانياً قوة العقل والروح التى ترنو إلى المثل العليا، والقيم السامية وتتعلق بها وتسعى للوصول إليها، وتبذل حتى الروح من أجلها، وما بين هاتين القوتين يتأرجح الإنسان، ويميل حيث يكون الوزن النسبى لأحدى القوتين بداخله أكبر وأعمق وأكثر تجذراً؛ بفضل عوامل التربية والتكوين منذ الصغر، فالعلاقة بين القوتين تحسمها القيم التى تم غرسها قبل سن السابعة.

وفى كل المجتمعات نحن نتعامل مع بشر كاملى التكوين تحددت توجهاتهم ما بين المصالح والقيم والمبادئ، وتشكلت نفوسهم؛ فإما فرسان، وإما نخاسون وقوَّادون، وما بينهما خليط من هذا وذاك تختلف فيهم النسب طبقا لقربهم أو بعدهم من الطرفين المثاليين: الفارس والنخاس.

هؤلاء البشر الذين تشكلت نفوسهم، وأصبحوا مفطورين على صورة معينة، وعلى تركيبة معينة من المصالح والقيم قد يتبنون بعد ذلك أى دين، أو ينتمون لملة أو لطائفة، أو لإيديولوجية سياسية، وقد يحملون هذه الجنسية أو تلك، ولكنهم فى كل الأحوال هم ما بين الفارس والنخاس أو القوَّاد.

قد يكون أحدهم بنفسية النخاس؛ ولكنه ينتمى إلى جماعة دينية، أو يكون سياسيا مرموقاً، أو عالما أو فقيها …الخ، وفى كل تلك المواقع يتصرف بنفسية النخاس، أو القوَّاد، ويوظف الدين والمذهب والفقه والإيديولوجيا والسياسة لما يتوافق مع نفسيته، ويبرر ذلك ويضفى على شرعية ومصداقية يستمدها من الذخيرة الفكرية التى يوفرها الدين والسياسة. وإذا نزلنا من عالم المثال إلى الواقع فى مصر والعالم العربى سنجد أن المصريين والعرب المحدثين ليسوا هم من نقرأ عنهم فى التاريخ أو من عاش بعضُنا مع بقاياهم، كان المصريون إلى أن نفخ فى آذانهم الرئيس السادات “اللى مش هيغنى فى عهدى مش هيغنى” ، كانوا شعبا يتعلق بالقيم والمثل العليا…”بلاد العُرب أوطاني…وكل العُرب إخواني”…”والله زمان يا سلاحي”…”نموت نموت وتحيا مصر”….”محلاها عيشة الفلاح”…”عواد باع أرضه ياولاد”…”أحلف بالقمح وبالمصنع. أحلف بالمدنه وبالمدفع. بأولادى بأيامى الجاية. ماتغيب الشمس العربية. طول ما أنا عايش فوق الدنيا”…كانوا وكنا.

وبعد السادات…أصبح المصريون مهووسين بالمال وبالثراء السريع، إنتشر الفساد وبدأت رائحته تزكم الأنوف من فضائح رجال السادات الذين زينوا أقفاص المجرمين قبل أن تجف تربة السادات، وتآكلت القيم والمثل من قلوب وعقول معظم المصريين، ولم يعد العُرب إخوانى ولا بلادهم أوطانى، صار العُرب مصدراً للمال نستغلهم أبشع إستغلال؛ ما أن تطأ أقدامهم مطار القاهرة؛ فيدخلوها خائفين مذعورين من النصب والإحتيال، وصارت بلادهم ملجأً للهجرة لكسب المال، وأصبحنا نهرب من الخدمة العسكرية ونلجأ للتزوير من أجل ذلك، ونسينا السلاح، وأصبحت مصر غنيمة لكل من أراد الثراء السريع؛ ننهب من خيراتها سرقة وفساداً؛ حتى نهبنا قبور الفراعنة وبعناها لأعدائنا وأعدائهم، ولم يعد هناك قمح نحلف به أو عليه ولا مصنع، ولم نعد نكترث بالشمس العربية حتى ضاعت بلاد العرب بلداً بلداً.

أما عيشة الفلاح فقد صارت عاراً ولم يعد هناك فلاح ولا عيشة فلاح، ويكفى أن نعرف أن القرية تستورد الجبنة والبيض والخبز من المدينة، وصار الفلاح يسعى لان يبيع أرضه بأى شكل حتى تبنى عليها غابات الخرسانة، وصار “عواد الذى باع أرضه” بطلاً وقدوة ومثلاً يحتذى به، ولم يعد عاراً ولا شناراً.

سقطت القيم قيمةً قيمة، وحلت محلها المصالح، وصار الإنسان المصرى كائن يسعى وراء مصالحه مع الإخوان، أو مع من خلَّص مصر من أنانيتهم وغبائهم وغرورهم وغدرهم، ولكن الشعب الذى تمت برمجته على المصالح وليس القيم سوف ينقلب على أى نظام لا يحقق مصالحه المادية المباشرة، لأنه جيناته أصبحت مصالح،…وليت النظام الحالى يدرك هذا ولا يستمع للمنافقين والأفاقين من غربان فضائيات رجال الأعمال وبومها.

أما العرب فقد كان ظهور النفط لحظة تاريخية فارقة بين القيم والمصالح، فبعد ظهور النفط تغيرت منظومة القيم تغيراً جذريا، وتم تحويل معظم القيم الإيحابية إلى قيم سلبية بتأثير المصالح المادية، فبدلا من الفخر بالكرم والعطاء، أصبح الفخر بالإمتلاك والتميز على الأخرين وإشعارهم بالنقص، وبدلا من إقتسام اللقمة وشربة الماء صار الإمتلاك والإستحواذ دون الأخرين هدفاً فى ذاته، وبدلاً من مشاعر الأخوة والتعاون والنصرة إنتشر الحقد من الشعوب التى لا تملك نفطاً على الشعوب التى تملكه، وإنقسم العرب بين كفيل ومكفول، بين غنى وفقير، بين من يملك ويتعالى ومن لا يملك ويحقد ويكره ويستغل.

صرنا أمة دينها المصالح المادية بعد أن رأت شعوبنا علماء الدين أول من إجتهد لينافس السلاطين فى حياتهم ولباسهم وقصورهم، بعد أن صار الدعاة إلى الله يركبون أفخم السيارات ويسكنون القصور، وينافسون رجال الأعمال فى إمتلاك كل متع الحياة، صارت المصالح ديناً فوق الدين، بل يُستخدم الدين نفسه لتبريرها، وهذا الأمر إنطبق فى مصر على المسلمين والمسيحيين، كثير من الدعاة المسلمين صاروا عباداً للمادة والترف والبذخ، وفى المقابل تحولت بعض الأديرة والرهبان إلى الإستحواذ على الأراضى والمواقع التاريخية والمحميات الطبيعية، وصار بعض الرهبان رجال أعمال ولم يعودوا رموزا للزهد فى الدنيا ومتاعها، أضاعوا الرهبنة وتاريخها فى خضم أهداف مادية؛ وإن كان لذلك ما يبرره عندهم مثل تحويل الأديرة إلى كيانات منتجة من خلال الإستيلاء على أراضى الدولة ومواقعها الأثرية والتاريخية.

جميعنا وقع فى المصيدة المادية وجميعنا صار يسعى وراء المصالح، ولا أستثنى أحدا حتى نفسى، كلنا أبناء السادات وإنا كنا نحب عبدالناصر أكثر، لكننا نتبع السادات ونسير على نهجه، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال : «وَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».والله نوشك على الهلاك ما لم تنهض أجهزة تشكيل الوعى لتقوم بدورها، ومالم يتم إصلاح التعليم والإعلام والخطاب الدينى سوف نسقط من قعر قفة التاريخ. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟