الاضطرابات صارت مألوفة في الأسواق المالية في مثل هذا العام من كل سنة. وهذا الأسبوع إثر خفض قيمة اليوان المفاجئ، دارت المخاوف على وضع الاقتصاد الصيني. فتدنت اسعار السلع وعملات الدول النامية. وترنحت اسواق الأسهم في اوروبا وأميركا
بين مطرقة التعافي الاقتصادي الأميركي وسندان التباطؤ الصيني
الاضطرابات صارت مألوفة في الأسواق المالية في مثل هذا العام من كل سنة. وهذا الأسبوع إثر خفض قيمة اليوان المفاجئ، دارت المخاوف على وضع الاقتصاد الصيني. فتدنت اسعار السلع وعملات الدول النامية. وترنحت اسواق الأسهم في اوروبا وأميركا. وتدنى سعر النحاس الى ادنى مستوياته في ست سنوات، في وقت بلغ سعر برميل النفط أقل من خمسين دولاراً، وسعر العملة الماليزية هو الأدنى منذ الأزمة الآسيوية في 1998. ووصلت ارتدادات الاضطرابات المالية الى كندا التي يبدو انها على قاب قوسين من ركود اقتصادي. وليس في الإمكان رد ما يجري الى عامل واحد. ولكن ثمة بلدين أثرهما بالغ في العالم المالي، الصين والولايات المتحدة. فالعلاقات بينهما هي الجسر الى فهم هذه الدوامة.
وأميركا الى اليوم هي اكبر اقتصاد في العالم وهي من يحدد مستوى الفوائد والعملات. والصين هي أسرع القوى الاقتصادية النامية وأكبرها. والعملاقان هذان يتجاذبان العالم، ويوجه كل منهما دفته الى وجهات مختلفة. فوتيرة الانتعاش الاقتصادي الأميركي تتسارع، في وقت يتباطأ الاقتصاد الصيني. وهذا التباين هو وراء الاضطراب، في الأسواق النامية على وجه التحديد، التي انتعشت على وقع طفرة الاستثمارات الصينية وسيل القروض الرخيصة الكلفة المتدفق من اميركا.
وارتفع الناتج القومي الأميركي، وتشير المؤشرات الى نمو راسخ الوتيرة. ووظف اصحاب العمل الأميركيون- فيما خلا اصحاب المزارع - 215 الف شخص في تموز (يوليو) المنصرم. وهذا ارتفاع كبير يندرج في سياق زيادة فرص العمل في الأشهر الماضية. ومعدل البطالة منخفض وينحو الى أقل من 5 في المئة. ومؤشرات النمو الإيجابية في اكبر اقتصاد في العالم هي فأل خير، من جهة. ولكنها، من جهة اخرى، تشي بأن موعد رفع الاحتياطي الفيديرالي معدلات الفائدة للمرة الأولى في عقد، وشيك، وقد يحين في أيلول (سبتمبر) المقبل.
واقتراب موعد رفع معدلات الفائدة هو وراء ارتفاع قيمة الدولار 15 في المئة في التبادل مع الشركاء التجاريين في العامين الماضيين. وهو خلف أثراً في الأسواق النامية على وجهين، اتجاه رؤوس الأموال الى شراء الأصول المالية الأميركية عوض استثمارها في البلد الأم؛ ومواجهة المؤسسات المستدينة في العالم أخطاراً تترتب على تغير اسعار العملات. وتخلف هذه الأخطار أثرها في السندات التي اصدرتها هذه المؤسسات منذ 2010، وقدرها 1.3 تريليون دولار. وأبرز الدائنين ممن يواجهون هذه الأخطار هم الصين والبرازيل وروسيا والمكسيك وكوريا الجنوبية.
ومع دوران عجلة الاقتصاد الأميركي، تتباطأ عجلة النمو الصيني. وانخفضت الصادرات الصينية 8 في المئة في تموز (يوليو) الماضي، وانخفضت اسعار المنتجات في المصانع (من غير كلفة النقل) 5.4 في المئة. وأسعار الإنتاج الصيني تراجع في الأشهر الـ41 الماضية، وهذا عارض من عوارض فائق القدرات في الصناعات الصينية الثقيلة، اي قدرة كبيرة على انتاج غزير وضعف في تصريف المنتجات. ولا يخفى ان تقهقر الاقتصاد الصيني لا مفر منه إذ تنتقل الصين من مرحلة اقتصاد الاستثمار الى اقتصاد الاستهلاك. وتخلف المرحلة الانتقالية هذه آثاراً سلبية في الأسواق النامية من البرازيل الى جنوب افريقيا. وعلى سبيل المثل انخفض النمو في سنغافورة الى اقل من 2 في المئة، وهذه ادنى نسبة نمو في الأعوام الماضية. وتشير احصاءات الى ان انتاج المصانع يتقلص في تايوان وكوريا. ويتردد أثر التراجع الصيني في الهند، على رغم انها اقل ارتباطاً بالسوق الصينية من غيرها من دول الجوار. ويشكو اصحاب مصانع الصلب الهندية تدفق السلع الصينية على الأسواق. وانخفاض اسعار المنتجات في المصانع «يضغط» على قطاعات الصناعة في دول الجوار، ويحملها على مجاراة الأسعار الصينية او خسارة حصتها في السوق.
ويساهم التباين بين وجهتي الاقتصاد الأميركية والصينية في تعقيد العلاقات بينهما. فانخفاض قيمة اليوان مقابل الدولار يشير الى ان هذه العملة كانت تحاكي قوة الدولار على رغم ان الاقتصاد الصيني يتراجع: ارتفعت قيمة اليوان في المبادلات التجارية اكثر من 14 في المئة منذ مطلع 2014. لذا، دارت المخاوف اخيراً، اثر خفض قيمة اليوان، على خفض قيمته لرفع جاذبية الصادرات الصينية. وليست هذه المخاوف في محلها. فبكين لم تشن حرب عملات. وجاء تقليص قيمة اليوان 2 في المئة بعد عشرة ايام متواصلة من ارتفاع قيمته قياساً على العملات الأخرى. ورمت خطوة المركزي الصيني الى تعزيز دور قوى السوق في تحديد قيمة اليوان.
ويخشى المسؤولون الصينيون هرب رؤوس الأموال، اذا تواصل انخفاض اليوان. وشأن بكين، لن يسارع الفيديرالي الأميركي الى خطوة تنفخ في الاضطراب. فشاغل واشنطن هو قوة الدولار. وأدى تراجع قيمة اليوان الأسبوع الماضي الى انخفاض اسعار عملات آسيوية. ويتعذر على الفيديرالي الأميركي التراجع عن رفع أسعار الفوائد. ولكنه قد يخطو خطوات صغيرة وبطيئة في هذا المنحى لطمأنة الأسواق النامية وعدم مفاقمة الاضطراب.
نقلا عن الحياة
* عن «ذي إيكونوميست» البريطانية، 15/8/2015، إعداد منال النحاس