الاتفاق النووي هو ثمرة تقاطع أو اتفاق عدد من العوامل، أبرزها إرادة إبرامه وظروفه وأحواله. وهذه العوامل هي من بنات المصادفات. والمثابرة تعظّم فرص التوصل إلى الصيغة المناسبة. فعلى سبيل المثل، لم يبق دومينيك دو فيلبان وقتاً طويلاً في منصبه في وزارة الخارجية الفرنسية (2002-2004) ليتسنى له إبرام اتفاق، على رغم أن الأحوال كانت مواتية. فالمُحاور، يومها، كان محمد خاتمي، وهو رئيس إيراني يرغب في استئناف العلاقات مع الغرب، وتولى عمليات التفـــاوض الدؤوبة حسن روحاني. واضطر هذا الأخير إلى انتــظار 8 أعوام قبل أن يُنتخب إلى رئاسة الجمهورية الإيرانية ويحقق مشروعه. ومنذ حملته الرئاسية الأولى، أعلن أوباما أنه يرغب في استئناف العلاقات مع إيران. ولكنه انتظر أربع سنوات وولايته الرئاسية الثانية قبل أن يسعه المضـــي قدماً في هذا المشروع. ويلاحظ أن ثمة مدة لاختمار الملفات ويتعذر تجاوزها، وكأن الأطراف المتحاورة تستسيغ استنفاد كل صيغ الحلول غير الناجعة وغير الصالحة قبل بلوغ الحلول المجــدية. ومنذ 2004، لم يخفَ المطلعون على الشؤون الإيـــرانية ومسائل حد الانتشار النــووي، وأنا منهم، أن وجهة تذليل الأزمة واحـــدة: القبـــول بالمشروع النووي الإيراني- وأي من عناصره لم تخالف مخالفة بائنة اتفاق الحـــد من الانتشار النووي-، وحدّ حجمه أو نطاقه وإحاطته بطــــوق من قيود الرقابة والضبط الوثيقة لرصد أدنى خطوة نحــو حيازة القنبلة والاقتصاص منها. لكن الكلام علــى وجهة الحل هذه كان يستقبل بالصمم، وكان ينظر إلى أصحابه على انهم انهزاميون يجب استبعادهم ومحاربتهم.
ولا شك في أن النظام الإيراني يغذي القلق الغربي، وينفخ في المخاوف على أنواعها. ومنذ مطلع التسعينات، برزت في الصحافة الدولية توقعات أوروبية وأميركية وإسرائيلية تدور على أن إيران تسعى إلى حيازة سلاح نووي وأنها ستبلغ مأربها بعد سنتين أو ثلاثة أعوام. وسرعان ما انقلبت إدانة إيران إلى محاكمة نواياها. وشطر كبير من الضالعين في الأزمة لم يكونوا في منأى من أطياف الماضي (طيف المحرقة في أوساط الإسرائيليين، وطيف أزمة الرهائن والهجمات المدمرة في أوساط الأميركيين والأوروبيين، وطيف مساندة الغرب صدام حسين في أوساط الإيرانيين). وساهمت أطياف الماضي في حرف التحليلات عن الواقع والصواب. فبرزت سياسة ابتزاز مقابل الثقة: مطالبة الغرب إيران بمد جسور الثقة معها قبل استئناف المفاوضات، وهذا مسعى لحملها على النزول على سلسلة من الشروط المسبقة قبل أن يتسنى لها التفاوض. وكانت فرص نجاح مثل هذه الاستراتيجية، التي رأى الإيرانيون أنها علامة التكبر الغربي، معدمة (صفر). فالثقة هي وليدة اتفاق جيد يلتزم التزاماً أميناً. ولكن هذه الاستراتيجية التزمت طوال ست أو سبع سنوات، ووطدت القيود أكثر فأكثر على إيران. وهذا ما عرف في وقت من الأوقات بـ«المعايير المزدوجة» و«الحزم» (العقوبات القاسية) و«الانفتاح» (عرض الحوار)، أي سياسة العصا والجزرة. ولكن التكتيك هذا يغفل بديهيات العالم الحيواني: الحمار لا يقترب ممن يلوح في آن بعصا وجزرة. وإذا كانت الحال على هذا المنوال في العالم الحيواني فما بال الإيرانيين؟
وكانت هذه الرؤية ترمي إلى هدفين، مكافحة الانتشار النووي وزعزعة النظام. ولكنها لم تصب في تشخيص تماسك الجمهورية الإسلامية. فضعف شعبيتها في أوساط الأكثر تعليماً ليس مرآة هشاشة كيانها. وحسِب العالم أن إيران، وهي بلد الريع النفطي، تنهار لا محالة حين يحظر عليها بيع النفط الخام وشراء الوقود المكرر. وحين أضرمت النيران في عدد من محطات الوقود إثر إعلان أحمدي نجاد رفع أسعار الوقود، سرى الأمل في وشك انهيار النظام في أوساط المراقبين. ولكن الخيبة كانت في انتظارهم. فاليوم المنتظر لم يهل يومها ولا في 2015. ولم تهل بشائره في 2009 حين نزل ملايين الإيرانيين إلى الشارع للاحتجاج على الانتخابات المزورة. ورد النظام رداً عنيفاً. وهزّ الخوف أوصاله، ولكنه التقط أنفاسه واستعاد شيئاً من مشروعيته حين أدار انتخابات 2013 إدارة نزيهة انتهت إلى فوز روحاني.
وكانت الأهواء تجتاح عالم المفاوضات. فلفت الضبابية رؤى الخبراء الذين يفترض بهم تنوير عالم السياسة. وأذكر أن موظفاً كبيراً في وزارة الخارجية الفرنسية يتولى الملف الإيراني، كان يؤكد لي بين 2004 و2005، أن إيران تملك ألف جهاز طرد ويسعها إنتاج اليورانيوم وتخصيبه وحيازة قنبلة في ستة أشهر. واليوم نعرف أن حيازة القنبلة تقتضي دوران عشرة آلاف جهاز طرد على الأقل. والتزم خبراء من مفوضية الطاقة النووية الصمت حين كان هذا المسؤول يتكلم، فهم كانوا يخشون اتهامهم بأنهم من أهل السوء. وكان من يخالف رأي الخبراء يقصى، والمترددون يلتزمون الصمت، والطعون البناءة تستبعد. فصارت الديبلوماسية الفرنسية أسيرة الأفكار السائرة واضطرت إلى التزام الموقف الأميركي، على رغم أنها كانت مخولة أداء دور الوسيط بين طهران وواشنطن.
ودرج الإيرانيون على سوء تقدير دعم الآخرين لهم. وكانت قرارات مجلس وكالة الطاقة الذرية الدولية تقع وقع المفاجأة عليهم، في وقت كانوا يعولون على التضامن الإسلامي ودعم العالم الثالث. ولكن حلفاءهم كانوا يتنصلون من دعمهم نزولاً على الضغط الأميركي. ولطالما حسِب الإيرانيون أن في وسعهم النجاة من مقصلة قرارات مجلس الأمن، في وقت كانت مواقفهم الاستفزازية (في عهد أحمدي نجاد) تدفعهم وهم غافلون إلى الهاوية. ودرج الإيرانيون في المفاوضات على طلب ثلاثة طلبات للحصول على طلب واحد. وقوض هذا التكتيك صدقيتهم. ومالوا إلى إصابة محاوريهم بالتعب، والاستفاضة في الكلام عن فضائل الجمهورية الإسلامية ونواياها الطاهرة. وتوهم الإيرانيون في عهد نجاد أن الاتفاق مع الصين وروسيا هو السبيل إلى الخروج من الأزمة. ولكن حسبانهم لم يكن في محله، وتعلموا من أخطائهم. فالتزم فريقهم المفاوض، على رأسه محمد جواد ظريف، مستوى عال من المهنية.
التناسب بين الهدف والوسائل
حين قرر الأميركيون إخراج المفاوضات إلى العلن في 2013، جندوا أفضل الخبراء لبلوغ أهداف محددة. وانصرف عشرات الديبلوماسيين والموظفين والخبراء، وعددهم يبلغ نحو المئة، إلى عمل دؤوب: تناول الملف الإيراني طوال أكثر من 18 شهراً. ونموذج عملهم مختلف عما كانت عليه الحال في الماضي القريب حين كان بضعة موظفين رفيعي المستوى يتولون الملف تناولاً متقطعاً ودورياً في العواصم الأوروبية الثلاث منذ بداية الألفية الثانية. وكان المضي قدماً في حل الأزمة الإيرانية يقتضي تعيين عشرات الديبلوماسيين والخبراء والعمل من غير انقطاع في كل عاصمة أوروبية. ولكن هذه العواصم لم ترغب في شد الحبال مع إدارة جورج دبليو بوش.
عالم أحادي
واليوم، تبدو معالم العالم «المتعدد الأقطاب» أو «من غير قطب» ملتبسة. وكان القرار الإيراني التعامل مباشرة مع الولايات المتحدة- موجهة دفة هذا العالم الملتبس- في محله. وأخفقت أوروبا في ترجيح كفتها ودورها. والمفاوضات النهائية كانت مفاوضات ثنائية، أميركية وإيرانية. واللاعبون الآخرون أدوا دور المتذمر والمعترض. ولم يطعن الروس والصينيون في غلبة كفة أميركا في المفاوضات ولحقوا بركاب واشنطن، على رغم أن بعض نقاط الاتفاق تخالف مصالح بكين وموسكو، ومنها عدم رفع الحظر عن بيع طهران السلاح التقليدي. وجلا العالم من غير لبس على صورة عالم أحادي القطب في تناول الملف الإيراني.
العقوبات ضرورة؟
يذهب «صقور» السياسة الأميركية إلى أن الفضل في حمل إيران على قبول مفاوضات جدية والصدوع بقيود كبيرة على الانتشار النووي يعود إلى العقوبات «الكاسحة» التي أصابتها بالشلل. ويزعم هؤلاء أن هذه العقوبات ستؤدي كذلك دوراً يضمن التزام اتفاق 14 تموز (يوليو) الأخير. فسيف العقوبات، ولو رفع، سيبقى مسلطاً على طهران ويحول دون التنصل من الاتفاق أو انتهاكه.
ولكن «الحمائم» تعيد إلى الأذهان ما يغفله الصقور: في 2005، قبل اللجوء إلى سلاح العقوبات، عرضت إيران تنازلات استعاد اتفاق 2015 عناصرها الأساسية: حد عدد أجهزة الطرد وتخفيضه إلى عدد اقل من العدد الذي اجمع عليه بعد عشرة أعوام، وتخفيض اليورانيوم المخصب إلى 5 في المئة، ونقل مخزون اليورانيوم المخصب إلى خارج إيران، والتزام البروتوكول الإضافي في انتظار المصادقة عليه في مجلس الشورى الإيراني. وإذ أترك نفسي إلى عالم الأحلام، أتخيل: لو ابرم اتفاق في أيام خاتمي وروحاني، لرجحت كفة المحافظين والمعتدلين، وربما لم يكن احمدي نجاد ليبلغ السلطة. فهو أضاع على إيران والعالم ثمانية أعوام. ولكن في عالم الواقع يبرز سؤال: هل كانت أوروبا ستنجح في حمل أميركا جورج دبليو بوش على قبول مثل هذا الاتفاق؟ هذا أقرب إلى عالم سياسة الخيال أو الخيال السياسي على نحو ما يقال خيال علمي.
نقلاً عن الحياة