المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ جلال أمين
د‏.‏ جلال أمين

أفول نظام الدولة القوية

الإثنين 07/سبتمبر/2015 - 11:40 ص

خلال الثلاثين عاما الماضية كتب كثيرون عما أصاب الدولة القوية من ضعف مع نمو قوة الشركات العملاقة وازدياد نفوذها وسطوتها والظاهرة حقيقية، ومهمة وتزداد وضوحا مع مرور الوقت، ولاتقتصر على منطقة فى العالم دون غيرها، ولكنى عندما استعدت فى ذهنى ما حدث للدولة خلال فترة أطول من الزمن، ولتكن فترة السبعين عاما التالية لانتهاء الحرب العالمية الثانية، وجدت من المفيد التمييز بين ثلاث فترات، فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالشركات العملاقة، طول كل فترة منها يتراوح بين عشرين عاما وربع قرن، إذ قد تلقى المقارنة بين الفترات الثلاث، مزيدا من الضوء على طبيعة ما حدث من تغيرات، وأسبابه يمكن أن نطلق على الفترة الأولى (45-1970)، اسم مرحلة «الدولة القوية»، إذ كانت الدولة فعلا كذلك، فى مناطق العالم المختلفة: العالم الرأسمالى فى الغرب، والعالم الشيوعى فى الشرق، وفيما كان يسمى بالعالم الثالث فى الجنوب كانت لقوة الدولة فى هذه المناطق الثلاث أسباب مختلفة، وإن كانت الرياح التى هبت فى كل من هذه المناطق كان لها أثرها فى المناخ السائد فى غيرها.

كانت الدول الرأسمالية فى الغرب (بالاضافة إلى اليابان) تقوم بإعادة بناء ما دمرته الحرب، وكانت هذه المهمة بالضرورة تستدعى تدخلا كبيرا من الدولة ولكن ذكرى الأزمة الاقتصادية العاتية فى الثلاثينيات، وما سادها من كساد وبطالة، والتى لم تنقذ العالم العربى منها إلا تدخل الدولة ثم قيام الحرب نفسها، كانت بدورها لاتزال قوية فى الاذهان. كانت مبادئ السياسة الكنيزية التى طبقت للخروج من الازمة، مازالت حية وتتمتع بقبول عام من الاقتصاديين والسياسيين، ساعد عليه أيضا اعتناق سياسة دولة الرفاهية (welfare state)، التى تنطوى على تحمل الدولة مسئولية كبرى فى تلبية الحاجات الأساسية للناس، بما فى ذلك خدمات التعليم والصحة وتوفير فرص العمل للجميع.

فى العالم الشيوعى انتهت الحرب بانتصار كاسح للاتحاد السوفيتى على النازية، وامتداد نفوذه ليشمل عدة دول فى أوروبا الشرقية، مما زاد الدولة السوفيتية قوة، وأكسب النظام السوفيتى القائم على شمولية دور الدولة أنصارا كثيرين فى مختلف بقاع العالم. ثم لم تمض أربع سنوات على انتهاء الحرب حتى استلم الشيوعيون الحكم فى الصين، ورفع الصينيون بدورهم لواء الماركسية وقيام الدولة بإعادة تنظيم مختلف نواحى الحياة، مما أضاف أنصارا جددا لنظام الدولة الشمولية فى بلاد أخرى من العالم.

ولكن العالم الثالث كانت له أسبابه الخاصة للأخذ بسياسة الدولة القوية، كانت دولة بعد أخرى من العالم الثالث تحصل على استقلالها فى السنوات التالية للحرب، فجاء إلى الحكم قادة وزعماء محبوبون كان لهم تاريخ مجيد فى الكفاح ضد الاستعمار، ويتمتعون بثقة الناس الذين سلموا لهم الزمام طواعية بل ورحبوا بشمولية الحكم كلما اقترن ببرامج طموح للتنمية الاقتصادية وتطبيق نظام أكثر عدالة فى توزيع الدخل ودرجة عالية من التخطيط المركزي.

يبدو أيضا أن سيارة «الحرب الباردة» فى تلك الفترة كانت من العوامل المساعدة على وجود الدولة القوية، بما يستدعيه مناخ الحرب الباردة من تقوية الجيوش وانفاق كبير على المشروعات التى تخدم الحرب أو الدفاع، فضلا عما يشيعه هذا المناخ من استعداد أكبر للرضوخ لإرادة الدولة.

منذ أواخر الستينيات تغيرت أشياء كثيرة .

وظهرت عوامل جديدة أدت الى الانتقال الى مرحلة جديدة (70 ـ 1990) شهدت بداية الأفول او التفكك فى قوة الدولة، كان عقد السبعينيات هو «عقد الوفاق» (detente) بين المعسكرين الرأسمالى والشيوعي، الذى بدأ فيه كل من المعسكرين البحث عما يمكن أن يفيده من التعاون والتفاهم مع المعسكر الآخر بدلا من العداء. ولكن العالمين الرأسمالى والشيوعى كانا قد أتما أيضا اعادة بناء ما دمرته الحرب، ولم تعد الدول الغربية تشكو من البطالة بل من ارتفاع أجور العمال، وظهر ما سمى ظاهرة «الركود التضخمي» (stagflation)، أى انخفاض الطلب على السلع مع ارتفاع مستوى الأسعار فى الوقت نفسه، وهى ظاهرة لم تكن السياسة الكنيزية التى تتبنى زيادة الانفاق من جانب الدولة لمعالجة ظاهرة الركود، هى السياسة الكفيلة بعلاجها.

كان العالم قد شهد خلال ربع القرن التالى للحرب العالمية (أى فى المرحلة التى سميناها مرحلة الدولة القوية) معدلات للنمو مرتفعة للغاية، سواء فى الغرب الرأسمالي، أو فى الشرق الشيوعي، او فى دول العالم الثالث التى حصلت حديثا على استقلالها. ولكن الذى نما بمعدل أسرع من هذا كله كان هو الشركات الدولية العملاقة، التى أطلق عليها وصف متعددة الجنسيات، اذ بلغ معدل نمو انتاجها خلال هذه الفترة نحو ضعف معدل نمو الاقتصاد الداخلى للولايات المتحدة او الاتحاد السوفيتي، وتحولت التجارة الدولية أكثر فأكثر الى تجارة داخلية بين هذه الشركات وفروعها، وتحولت الحركات الدولية لرؤوس الأموال، أكثر فأكثر، الى انتقال رؤوس الأموال بين واحدة وأخرى من هذه الشركات.

كان من نتائج ذلك ظهور بوادر ما عرف باسم (المجتمع الاستهلاكي) منذ أواخر الستينيات، ولكن سرعان ما اكتشفت هذه الشركات أن أسواق البلاد المتقدمة لم تعد كافية لاستيعاب انتاجها المتزايد، كما أن مستوى الأجور فيها كان قد أصبح من الارتفاع بحيث يشكل عقبة فى طريق مزيد من التوسع فى الاستثمار والانتاج. لجأت هذه الشركات إذن، أكثر فأكثر الى البلاد الأقل نموا، كأسواق لمنتجاتها وكمصادر للعمل الرخيص. ولكن هذا كان يتطلب ما سمى «بالانفتاح»، والانفتاح كان ينطوى بالضرورة على تخلى الدولة عن كثير من مسئولياتها، أى أن تتخلى هذه البلاد عن ظاهرة «الدولة القوية». أما فى البلاد الرأسمالية المتقدمة، فقد تولت مسز ثاتشر فى بريطانيا، والرئيس ريجان فى الولايات المتحدة، خلال الثمانينيات، مهمة تفكيك الدولة القوية حتى تتاح فرص جديدة أمام هذه الشركات للاستثمار فى ميادين كانت تخضع لسيطرة الدولة من قبل.

ولكن الضربة القاصمة التى وجهتها الشركات العملاقة للدولة القوية حدثت فى أواخر التسعينيات، بسقوط دولة بعد أخرى من دول المعسكر الاشتراكي، وفتح أبواب هذه الدول امام نشاط الشركات متعددة الجنسيات، وقد كان قد سبق ذلك بقليل فتح ابواب الصين لهذه الشركات.

هكذا بدأت فى 1990 مرحلة جديدة من مراحل افول الدولة القوية، ومازلنا فيها حتى الآن. لايمكن مع ذلك أن نتوقع أن يكون ما أصاب الدولة من ضعف متساويا من بلد وآخر، فالظروف السياسية تفرض هذا الاختلاف بين الدول فى درجة تخليها عن مسئولياتها الاقتصادية. فالدولة مازالت تحتفظ بدرجة عالية من القوة فى الاتحاد السوفيتى مثلا او فى الصين او اسرائيل، أكثر مما نجده فى بلد كالهند مثلا او اندونيسيا. ولكن التسارع فى معدل أفول الدولة القوية منذ بداية التسعينيات أصبح ظاهرة تكاد تكون عامة فى العالم ككل. بل انه ليس من الشطط فى رأيى أن نحاول فهم ما حدث فى العالم العربى منذ هجوم صدام حسين على الكويت فى 1990، ثم سقوط نظام صدام حسين نفسه فى 2003، ثم ما توالى على العالم العربى إحداث منذ 2010، مما سمى «الربيع العربي» فى إطار هذه الظاهرة العامة، أى أفول نظام الدولة القوية، ولكن هذا يحتاج بلاشك الى مقال مستقل. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟