الفساد ظاهرة بشرية كبرى ظهرت مع بداية حياة الإنسان على الأرض فى مجتمعات بشرية منظمة، وصاحبته طوال رحلته التاريخية، بحيث أصبح للفساد سنن ونظم وقواعد وقوانين، وأصبح من السهل معرفة متى يبدأ؟ وكيف ينتشر؟ وما هى طبقاته الجيولوجية؟ وما هى أصنافه وأنواعه ودرجاته؟، أى أن الفساد قد صار حقلا معرفيا فى حد ذاته، تتلاقى فيه علوم مختلفة من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الاجتماع إلى علم النفس، ومن الثقافة إلى الأديان.
والفساد فى الوقت نفسه فن من أعقد الفنون وأكثرها عمقا، فيحتاج إلى مهارات يصعب اكتسابها إن لم يكن قد تربى عليها الإنسان منذ نعومة أظافره.
فنون الفساد تعيد تشكيل العرف والعادة، بحيث يصبح الفساد عرفًا وعادة اجتماعية غير مرفوضة وأحياناً مشكورة ومحمودة، وذلك حين يصبح الفساد من قبيل الشطارة والفهلوة والذكاء والحنكة والجسارة والشجاعة، وحين يصبح الفاسدون سادة المجتمع والمثل الأعلى فيه ورموزه الناجحة.
عند هذه المرحلة يتم نزع الدسم من الفساد، أى نزع الأبعاد السلبية وغير الأخلاقية منه، ويتم تكييفه مع الثقافة والعرف والدين، فتصبح الرشوة حقاً وإكرامية، وتصبح السرقة من المال العام شطارة وحصولا على حقوق مهدورة لا يستطيع الحصول عليها إلا أصحاب القلوب الجسورة والعقول الذكية، وعند ذلك يستمتع المصرى العظيم بالحج والعمرة عن طريق الفساد، بل يبنى أحدهم مسجداً من مال فاسد ليعيد موضعة نفسه ضمن الصالحين والمحسنين والمتصدقين.
والفساد درجات وطبقات منها الأصغر ومنها الأكبر وبينهما أنواع أُخر، وما تقوم الدولة المصرية بمكافحته هو الفساد الأصغر، هو ابن الفساد الأكبر.
الدولة المصرية بدأت مواجهة الفساد الأصغر، ولكنها لم تفكر بعد فى مواجهة الفساد الأكبر، الفساد العظيم الذى أبدعه الشعب المصرى العظيم، الفساد الذى يتوالد ويتكاثر كالسرطان فى المجتمع دون علاج أو استئصال، هذا الفساد الأكبر سيتوالد وينتشر حتى تقبض الدولة على جميع أفراد الشعب، وحتى لا نجد قابضا ولا مقبوضا لتداخل القابض والمقبوض وتوحدهما فى شخص واحد، فنصل إلى استدعاء «أبو لمعة» ليقبض على نفسه فى نهاية المطاف. نحن جميعاً صنعنا الفساد الأكبر وغذيناه ورويناه ورعيناه على أعيننا؛ ففرخ لنا ذرية هائلة متكاثرة من الفساد الأصغر، سكنت نفوسنا جميعاً بدرجات متفاوتة، وبألوان مختلفة، بعضها ظاهر وبعضها خفية ولكن ما هو الفساد الأكبر؟ وما هو الفساد الأصغر؟
الفساد الأكبر يا سادتى يبدأ ممن هم قدوة المجتمع ومثله الأعلى ونجومه الذين يقتدى بهم العوام؛ بكل فئاتهم وأنواعهم وتخصصاتهم، من علماء الدين والوعاظ والكهنة والرهبان إلى المثقفين والإعلاميين، ومن السياسيين والحزبيين إلى رجال الأعمال والأغنياء ووجهاء المجتمع، ومن الأطباء والقضاة وأساتذة الجامعات إلى المذيعين والصحفيين.. الخ. هؤلاء هم من يصنع الفساد الأكبر وهم من يغذيه ويتناسله ويكاثره.قديما قالوا: «إذا انشغل العلماء بجمع المال الحلال؛ اتجه العوام كلهم إلى الشبهات، وإذا صار العلماء يأكلون الشبهات؛ صار العوام آكلين للحرام، وإذا صار العالم يأكل الحرام؛ كفر العامى إذا استحل» هنا مصنع الفساد الأكبر، هنا سدنة معبد الفساد والإفساد، هنا ننظر فيمن يدخلون فى صنف العلماء بكل ألوانهم ومذاهبهم فى مصرنا المحروسة (ماذا سنجد؟) سنجد علماء ووعاظ ودعاة غارقين فى الدنيا وملذاتها، يسابقون المترفين من الأغنياء فى حياتهم وقصورهم وسياراتهم ونسائهم، يبيعون كل مكونات الدين من الوعظ والنصيحة والأدعية وقراءة القرآن بكل السبل والوسائل حتى نغمات التليفون، ورهبان حولوا الأديرة إلى مزارع ومصانع، وتجارة تدر الملايين، ووضعوا أيديهم على أكبر مساحات من الأراضى بحجة استصلاحها، فبمن يقتدى المسلم والمسيحى فى مصر؟ تعالوا إلى صنف ثانٍ من سدنة معبد الفساد الأكبر، إلى أساتذة الجامعات والأطباء والقضاة أقل فساد يمارسونه هو توريث البلهاء من أبنائهم أعظم المهن التى ما وصلوا إليها إلا بجهدهم وسهرهم ومثابرتهم، ولكن ما أن استقرت فيها مقاعدهم حتى تنكروا لأصلهم، واعتبروا أن أبناءهم هم الورثة الشرعيون لهذه المهن الجليلة العظيمة وليس ابن الزبال أو ابن الفلاح، ثم تمادوا فى الفساد فهذا يبيع كل شىء من المذكرات إلى الامتحانات وذاك يسرق الأعضاء البشرية والثالث يسترخص العدالة بدراهم معدودات ويكون فيها من الزاهدين.والصنف الثالث من صناع الفساد الأكبر هم أهل الإعلام بكل أنواعه الذين جاء بعضهم إلى قاهرة المعز حفاة عراة من الجنوب والشمال، وباعوا الكلمة، فصفقوا وطبلوا لكل من يدفع أو يحمى أو يتستر على ما جنت أيديهم من آثام فى حق الوطن، هؤلاء يقدمون أنفسهم على أنهم قادة الرأي، وصناع الفكر، وحماة الوطنية والجميع يعلم أن ثمن الكلمة التى تخرج من أفواههم تعادل دخل مواطن غلبان فى شهر. الفساد الأكبر فى قمة المجتمع فى النخبة الثقافية والسياسية والمهنية، الفساد الأكبر يصنعه رجال الدين الذين صاروا من رجال الدنيا وزينتها، يصنعه المثقفون والكتاب الذين يبيعون كل شىء من الأغانى الهابطة، والسينما الساقطة، والمسلسلات الفضائحية، المهم أن تدر دخلا يمكنهم من السكن فى المنتجعات السياحية والشاليهات المارينية.
على الدولة والمجتمع معالجة الفساد الأكبر حتى يمكن مكافحة الفساد الأصغر؛ فساد مجموعة البدل والتليفون ورحلة العمرة، هذا هو الفساد الأصغر أما الفساد الأكبر فهو فساد كل من إنتقده وأذاع خبره وعلق عليه.
ما لم تتخلص مصر من الفساد الأكبر سيكون الفساد الأصغر أكثر تكاثراً، وأعظم انتشاراً. اا نقلا عن الأهرام