تكشف الموجة الثانية للهجرة والنزوح واللجوء إلي حدود الاتحاد الأوروبي من معظم المنافذ والمشاهد التي نقلتها وسائل الإعلام خاصة صورة الطفل «إيلان كردي» عن متغيرات نوعية جديدة في هذا الملف تضع جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية أمام مسئولياتها كما تكشف عن تشخيص الوضع الراهن في أزمات المنطقة وتعصف بالأوهام التي ظلت تراود العديد من الدوائر وصانعي القرار الدولي عن طبيعة الحل في المنطقة أو الأوهام المتعلقة باحتواء آثار هذه الأزمات في بيئتها الإقليمية وحصر مخاطرها في الدائرة الإقليمية بعيدا عن الاتحاد الأوروبي والعالم.
تكشف هذه الموجة الثانية للنزوح واللجوء إلي دول الاتحاد الأوروبي أولا عن طبيعة السياسات الرسمية لدول الاتحاد الأوروبي إزاء الهجرة واللجوء التي وضعتها الحكومات والدول والمفوضية الأوروبية، فهذه السياسات مسكونة بالأمن والهوية والمركزية الثقافية الأوروبية وتعاني من ظلال وتأثيرات خطاب اليمين المتطرف العنصري الأوروبي دون أن تصرح بذلك وتخاطب هذه السياسات أصوات وميول الناخبين علي حساب القيم والمبادئ الإنسانية العامة وحقوق الإنسان، تستظل سياسات الاتحاد الأوروبي إزاء جيرانه من الدول الأوروبية الشرقية أو من دول جنوب المتوسط بضرورة الحفاظ علي الجنة الأوروبية والازدهار الأوروبي عبر تحييد أولئك وهؤلاء واستبعاد احتمال الهجرة من خلال المساعدات التنموية وغيرها من أشكال المساعدات للحيلولة دون تدفق المهاجرين والنازحين وتثبيتهم في أوطانهم من خلال دعم المشروعات الوطنية وتستلهم أوروبا في ذلك خبرة الإمبراطورية الرومانية المزدهرة في محيط من الفقر والفوضي والذي أفضي إلي توالي غزوات القبائل الجرمانية للإمبراطورية الرومانية وانتهي بالقضاء عليها. وقد أثبتت الخبرة العملية خلال موجات النزوح واللجوء الأخيرة عدم كفاية هذه السياسات لوقف الهجرة وضرورة البحث في إعادة بناء سياسات جديدة تلبي الاحتياجات الإنسانية للمهاجرين والفارين من القتل والعنف، خاصة أن متغيرا جديدا قد برز بوضوح خلال موجة الهجرة الأخيرة ألا وهو أن قوة اليأس هي التي تدفع بالمهاجرين إلي الحدود والشواطئ الأوروبية بعد أن اكتشفوا أن الجرائم المرتكبة في حق أوطانهم وبلادهم من كافة الأطراف المحلية والإقليمية الرسمية وغير الرسمية تفتقد حتي الآن لأي أفق لإنهائها ووضع حل لها، ومن ثم فقدوا الأمل في حل هذه المشكلات، ولم يعد هناك أمل سوي بالهجرة إلي دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يجعل من الصعوبة وقف هذه الموجة عبر الإجراءات البيروقراطية المعتادة أو غيرها من الإجراءات.
فيما يتعلق بالوضع المحلي والإقليمي، أصبح من الواضح أن توازنا للضعف في طريقه للاستقرار فلا النظام السوري قادر علي السيطرة وإنهاء هذه المقتلة والحرب لصالحه ولا المعارضة السورية بجميع تنظيماتها قادرة علي حسم المعركة لصالحها، وخلف هذه الأطراف تقف قوي إقليمية ودولية عاجزة بدورها عن رسم رؤية وسياسة واضحة للخروج من هذا المأزق والحيلولة دون انفجار الموقف علي نحو أشد قسوة وتدميرا ينجم عنه تفكيك الدولة السورية ونشأة دويلات مذهبية وعرقية ودينية تنذر بخطر جسيم علي المنطقة والأقليات والإقليم برمته.
في إطار هذا العجز الداخلي والإقليمي والدولي تتخذ قضية المهاجرين والنازحين واللاجئين أبعادا جديدة لم تعد مقصورة علي المحيط الإقليمي المباشر ودول الجوار فحسب بل أصبحت تتجاوز هذه الدائرة إلي أوروبا والعالم، أصبح الخلاص أمام هؤلاء يوجد خارج أتون المعارك والقتل الطائفي والعرقي، خارج الأرض والوطن الذي يتعرض للتهديد والتقسيم وسيطرة جماعات من خارج التاريخ علي مصائر البلاد والعباد، أصبح الخلاص في الهجرة والنزوح إلي أوروبا وفي مواجهة هذه الأزمة كشفت الشعوب الأوروبية عن وعي إنساني يتجاوز أفق السياسات الحكومية من خلال المبادرات الفردية والجماعية ومنظمات المجتمع المدني التي توالت مقترحاتها لدعم واستقبال المهاجرين وتشكيل صناديق لتقديم العون لهم، وقد بدا المستوي الشعبي لهذا الوعي الإنساني متقدما كثيرا بالقياس إلي تطور السياسات الحكومية الأوروبية والتي ظلت تحوم في إطار المنهجية ذاتها التي استندت إليها هذه السياسات أي سياسة التسكين وعلاج الأعراض دون التطرق لجوهر الحل ومعضلاته الحقيقية والذي يكمن في تبني مواقف سياسية واضحة وقوية تنهي الوضع الراهن وتضع نهاية لأعمال القتل والتدمير ومناهضة التقاسم الأمريكي الروسي للأدوار خاصة في الأزمة السورية والذي أفضي حتي الآن إلي استمرار تلك المعادلة الجهنمية الراهنة والتي تمثل أزمة المهاجرين واللاجئين الوجه الأبرز لها وما خفي منها كان أعظم.
آن الأوان لأوروبا أن تنهض بمسئولياتها التاريخية إزاء شعوب المنطقة التي ربطتها بها روابط تاريخية وثقافية منذ مئات السنين وأن تلقي بثقلها السياسي والاقتصادي لتجاوز أزمات المنطقة والحيلولة دون تفجيرها بأكثر من ذلك لأنها ليست بعيدة أو محصنة من تداعيات وآثار ذلك الانفجار إن بحكم القرب الجغرافي ووقوعها علي الشاطئ الآخر للمتوسط وإن بحكم مسؤوليتها السياسية والأدبية والرمزية والحضارية ومصالحها في المنطقة عموماً.
تتحمل الدول العربية وجامعة الدول العربية ومصر في مقدمة هذه الدول قدرا كبيراً من المسئولية في احتواء هذه الأزمات والحيلولة دون وصولها لمرحلة الانفجار العظيم عبر بلورة رؤي وتصورات ومبادرات تحفظ للدولة السورية وحدتها وسلامة أراضيها وللشعب السوري حقه في اختيار مؤسساته ونظام حكمه.
الأزمة السورية الراهنة بمختلف تجلياتها الخارجية والداخلية تكشف طبيعتها الدولية والإقليمية بحكم طبيعة التداخل في الأدوار والاصطفافات الإقليمية والدولية، واستمرار الفشل لا يمكن نسبته إلي طرف دون آخر عربيا كان أو دوليا، فهو فشل كوني ودولي يسأل عنه الجميع أمام الرأي العام والضمير العالمي. وأخيرا وليس آخرا فإن موجة الهجرة الراهنة واللجوء قد كشفت بوضوح قصور نظام الإغاثة والمساعدات الدولية عن تلبية الاحتياجات المتزايدة للاجئين والمهاجرين وعجز الآيات والوسائل المتاحة عن مواجهة ظروف الطوارئ والتضخم الذي تشهده أعداد اللاجئين والمهاجرين جراء تصاعد الأزمات في الشرق الأوسط وشمال ووسط آسيا وفي أفريقيا وهو الأمر الذي يتطلب وضع سياسات جديدة لنظام الحماية للاجئين ونظام الإغاثة.. نقلا عن الأهرام