أحدثت الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة بشعارها «التحرير والعودة» نقلة تاريخية في مواجهة المشروع الصهيوني، عموماً، وفي مواجهة استحقاقات ما بعد نكبة 48، خصوصاً، بينما جاءت «نكسة» 67 لتزيد لهيب هذه الثورة اشتعالاً، وصولاً إلى المبادرة الشعبية الكبرى، انتفاضة كانون 87، حيث اشتعل الجيشان الشعبي في الأراضي المحتلة، تعبيراً عن تغلغل التمرد الثوري في أوساط الشعب الفلسطيني، وعن تنامي قوة إرادته وقدرته على تحدي الاحتلال وكسر حاجز الخوف وتحويل انفجاراته العفوية المحلية، بسرعة مذهلة، إلى انتفاضة شعبية عارمة، أمسكت زمامها «قيادة وطنية موحدة»، ودفعتها قدماً حتى صارت نمط حياة، ما مكنها من تحييد القوة العسكرية للاحتلال، ومن التفوق عليه سياسياً وأخلاقياً، ما جعل استعادة «مناطق 67»، وانتزاع هدف «الحرية والاستقلال»، إمكانية واقعية، لكن اتفاق «أوسلو» قطع السياق.
والآن، بعد مرور 22 عاماً على أوسلو، يتبين أنه اتفاق، بمعزل عن حسن النوايا، لم يقطع، فقط، سياق انتفاضة شعبية ما كان مشروعاً ولا كان منطقياً أن تنتهي بـ«حكم إداري ذاتي محدود»، بل، قطع، أيضاً، سياق ثورة ما كان مشروعاً، ولا كان منطقياً لقيادتها أن تختار ظرفاً مجافياً، دولياً وعربياً، مثَّله انهيار «نظام ثنائية القطبية» وشن حرب «عاصفة الصحراء» على العراق توطئة لاحتلاله وتدميره لاحقاً، لحظة لبدء التفاوض مع عدو استيطاني إقصائي، بل ولإبرام اتفاق، يلزمها بقبول أن يصبح الراعي الأمريكي لهذا العدو، راعياً للتفاوض معه، ويجبرها على أن تؤجل قضايا اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود والمياه والأسرى، وعلى أن تجرد نفسها، بصورة مجانية متسرعة، من أوراق قوتها الأساسية: الانتفاضة الشعبية، والاعتراف بوجود «إسرائيل» وأمنها، وإلغاء ما يتعارض مع اتفاق أوسلو من بنود الميثاق الوطني، بل وعلى أن تُحدث تغييراً جوهرياً على خطاب الثورة لدرجة أن يصبح، في محاور أساسية، خطاباً غير ذي صلة بخطابها الحالي.
مع هذا الخلل البنيوي متعدد الأوجه الذي تأسس عليه اتفاق أوسلو كان من الطبيعي والمنطقي ألا يحصد سوى إدخال المشروع الوطني الفلسطيني الذي أطلقته الثورة المعاصرة في أزمة عميقة. فقد اتكأت حكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة على هذا الخلل، ووظفت ما أحدثه في واقع الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني، في الوطن والشتات، من شروخ وانقسامات والتباسات، لتسريع عمليات الاستيطان والتهويد والتطهير والتفريغ، ولمواصلة مساعي «الأسرلة» للتجمع الفلسطيني في «مناطق 48»، والتفكيك للتجمع الفلسطيني في «مناطق 67»، والتوطين للاجئين، ما يؤكد أن العنصرية السياسية والأيديولوجية الصهيونية، الجاثمة على صدر فلسطين وطناً وشعباً، ليست في وارد التسوية السياسية للصراع. هذا هو الاستخلاص الأساس الذي ينبغي أن تتوقف أمام استحقاقاته القيادات الرسمية والشعبية الفلسطينية والعربية بعد 22 عاماً من التجريب الفاشل والضار لخيار أوسلو لإنهاء احتلال «مناطق 67» وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدودها.
كيف لا؟ ما دام قادة الكيان الصهيوني، على اختلاف أحزابهم، يتشبثون، بغطاء أمريكي، بـ«الدولة اليهودية» التي باتت خارج الممكن التاريخي والواقعي، اتصالاً بالتعادل والتشابك السكاني القائم الآن بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في فلسطين التاريخية، ما يعني أن المشروع الصهيوني لم ينجح في إقصاء الشعب الفلسطيني من المكان والزمان، حيث انبثق من تحت رماد النكبة، واكتسب هوية وطنية كفاحية في سبيل قضية عادلة. بل، ومثلما فشلت اتفاقات (كامب ديفيد ووادي عربة)، في تطبيع علاقات «إسرائيل» مع الشعبين المصري والأردني والشعوب العربية عموماً، فقد فشل اتفاق أوسلو في أن يُسقط راية نضال الشعب الفلسطيني ضد احتلال استيطاني إقصائي لم ينجح في شطب وجوده وما يستولده من إرادة مقاومة تتطلع نحو أهداف أصيلة وجوهرية، تحركها عناصر الهوية والذاكرة التاريخية والحلم المشترك وموجات النضال المتواصلة، بما يؤكد أن الشعب الفلسطيني الذي شتته تطهير عرقي بشع عام 48 ونزوح قسري عام 67، ويوحده سياق تاريخي مديد، كان ولا يزال وسيبقى بنية مجتمعية وثقافية وسياسية واحدة، لن ينتج الإصرار على إنكارها والعمل على تفتيتها، غير تأبيد الصراع وتأجيجه وإعادة إنتاجه.
ولا عجب. فالشعب الفلسطيني، خصوصاً، والشعوب العربية، عموماً، تدرك بحسها العفوي، وترى بأم عينها، أن البنية الفكرية والسياسية والاجتماعية للكيان الصهيوني لا تعطي بالاً لهذه الاتفاقات، خصوصاً اتفاق أوسلو الذي دهسته دبابات هذا الكيان وجرافاته وحولته إلى جثة، بينما تواصل التمسك به، وبالتزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية، من طرف واحد، نخب قيادية فئوية منقسمة تقاسمت ثماره المرة، ونسيت، سيان بوعي أو بجهالة، أن ترابط المشروع الصهيوني والمشروع الاستعماري «الغربي» في المنطقة، ما زال قائماً، وأن مدخل الخروج من المأزق الذي أحدثه أوسلو يتمثل في استعادة خيار الوحدة والمقاومة، لإخراج ملف القضية الفلسطينية من قبضة الرعاية الأمريكية، توطئة لاستعادة سياق النقلة التاريخية للثورة المعاصرة التي قدمت مطالعة «إقامة دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية»، بوصفها المطالعة الأكثر وعياً للصيرورة الواقعية للتناقض بين الوطنية الفلسطينية والكيان الصهيوني الذي ارتكب، ولا يزال يرتكب، برعاية أمريكية ثابتة، ما لا نظير له في تاريخ البشرية الحديث والمعاصر، من تطهير عرقي مخطط وإبادة جماعية ممنهجة، ما حوَّل الصراع إلى صراع تناحري شامل ومفتوح، بل إلى اشتباك تاريخي، يصعب، بل يستحيل، «تسويته» بمعنى تهدئته وتغيير أشكاله، (فما بالك بإنهائه)، إلا بتعديل ميزان القوى، وتوافر عوامل قوة وطنية فلسطينية وقومية عربية وتحررية دولية، تجبر الأحزاب الصهيونية على مغادرة حلم «الدولة اليهودية»، وتلزمها بتفكيك نظامها العنصري الإقصائي الإحلالي، وتفرض عليها الاعتراف بالحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وجوهرها حق اللاجئين في التعويض والعودة إلى ديارهم، بوصفهم المادة الأساسية لحركة التحرير الفلسطينية والحلقة المركزية في البرنامج الوطني الفلسطيني، «العودة وتقرير المصير والدولة» الذي فشل «أوسلو» في تحقيق أدنى مكوناته، ما يوجب إحياء هذا البرنامج بعناصره المترابطة وغير القابلة للمقايضة والمبادلة. هذا هو المطلوب، بل المفروض، بعد 22 عاماً من تجريب خيار أوسلو الفاشل والمدمر. فـ«هنا الوردة، فلنرقص هنا". نقلا عن الخليج