المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. نصر محمد عارف
د. نصر محمد عارف

إنقاذ القدس.. الاتجار بالقدس

الإثنين 21/سبتمبر/2015 - 11:00 ص

كان من أهم آثار الاستعمار الأوروبى للعالم العربى تقسيم العالم بين العرب من ناحية، والغرب الأوروبى من ناحية أخري، وكان نصيبنا من هذه القسمة عالم الكلمات والحروف والأصوات العالية الزاعقة؛صاحبة البطولات الهائلة فى دنيا الخيال التى تزيدها ألفاظ اللغة فخامةً وشموخاً، وكان نصيب الغرب الأوروبى صنع الحقائق على الأرض، وتغيير الواقع والتحكم فى المستقبل.

تضخمت هذه الحالة مع ظهور الحركات والجماعات السياسية القومية واليسارية والإسلامية، وأصبح الصراع فى العالم العربى يدور على صفحات الكتب والجرائد، ثم على موجات الأثير عندما دخل الراديو، ثم على شاشات التليفزيونات، وأخيرا على صفحات الفيسبوك والتويتر، وظهر نوع جديد من الأبطال الذين يقودون جيوشا تُعد بالملايين من المتابعين لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح هؤلاء الأبطال الوهميون أو الافتراضيون يعتقدون فى قرارة أنفسهم بأنهم يصنعون التاريخ، ويحددون مسارات المستقبل بكلمات مراهقة زاعقة جوفاء، ويزيدهم نشوةً تعليقاتُ المتابعين وعدد اللايكات والشير. وقد كان أول ضحايا هذه الحالة المسجد الأقصي، القدس الشريف ومعه فلسطين، فقد أطلقت الجماعات السياسية خصوصا الإخوان المسلمين وجناحها العسكرى فى فلسطين قذائف من الكلمات لتحرير القدس، وانتهت بهم الحال إلى أن أصبح أقصى طموح يحلمون به هو فتح معابر قطاع غزة؛ الذى تحول إلى أكبر سجن مفتوح فى العالم، وأكبر مستشفى مفتوح فى العالم، وأكبر معسكر للتعذيب مفتوح فى العالم، كل ذلك وحركة حماس تجمع مليارات الدولارات باسم القدس، فلقد أَسَرَ ممثل الحركة فى لبنان إلى سياسى لبنانى وكاتب شهير بأن ما جمعته حركة حماس فى شهر رمضان قبل الماضى وصل ثلاثة مليارات دولار.

الحركات القومية واليسارية ليست أفضل من ذلك بل على العكس، فقد كانت هى مدرسة الفساد التى تعلم فيها الإسلاميون العمل السياسي، وصاروا يقلدونها تقليدا مرضيا سواء فى الهياكل التنظيمية أو السيطرة الشخصية أو الفساد، فلا فرق بين أبى مازن محمود عباس، وبين أبى الوليد خالد مشعل إلا بعض الشعيرات فى وجه الأخير التى تساعده فى جلب المزيد من الدولارات، جميع هذه الحركات تخدم القدس بالكلمات وتغنم من ورائها بالدولارات، ولا يمكن أن نصف حالنا وموقفنا من القدس إلا بكلمات الشاعر العراقى مظفر النواب - رغم فحشها وبذاءتها - فى قصيدته الشهيرة القدس عروس عروبتكم.

الاتجار بالقدس قديم انخرطت فيه الأحزاب والنظم القومية، ثم قلدتها الأحزاب والنظم الإسلامية … صدام حسين رفع شعار القدس، ولكنه بدلاً من إرسال النشامى لتحريرها أرسلهم لاحتلال الكويت الذى كان نقطة فارقة فى التاريخ العربى الحديث، فَقَدَ العرب على إثرها البقية الباقية من شعور الوحدة، وفقدوا كذلك مفاهيم السيادة والاستقلال، وبعده ابتلينا بإيران التى رفعت شعار تحرير فلسطين، وأنشأت فيلق القدس، وبدلا من تحرير القدس احتلت بغداد ودمشق عاصمتى المجد العربى الضائع، وكذلك فعل ربيبها فى لبنان حزب الله الذى وقف طموحه عند مزارع شبعا عندما تعلق الأمر بإسرائيل، ولكنه تحول إلى أسد فى المعركة الطائفية فى سوريا والعراق.

على نفس النهج سارت التيارات السلفية الجهادية وغير الجهادية فى كل أنحاء العالم العربى والإسلامي؛ الذين يتلذذون بقتل المسلمين إخوانهم من أتباع مذهب آل البيت ويعلنونها حربا مقدسة عليهم، ويخرجون من ديارهم لقتالهم فى سوريا، وينسون أن القدس على بعد خطوات، وكذلك فعل صبيان الحوثي، كتبوا شعار الموت لإسرائيل على الأوراق المعلقة على أسلحتهم، وآثروا إخوانهم اليمنيين بالرصاص الخارج من نفس الأسلحة، فكان الموت لإسرائيل كلاما والموت الفعلى لليمنيين. تجارة القدس رائجة منذ زمن بعيد فى عالمنا العربى والإسلامي، أتقنتها الأحزاب والحركات السياسية، وكذلك النظم الإيديولوجية بكل أنواعها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، من الماركسيين إلى الدواعش والحوثيين، الكل يتاجر بالقدس، ويرفع شعار القدس لتحقيق أجندات محلية ومصالح حزبية تحول دون تحرير القدس، لأنها تضعف الدول العربية من خلال استمرار حالة الاحتراب الداخلى فيها.

القدس ورقة رابحة فى يد كل من استخدمها من الانتهازيين، والقدس بركة مربحة لكل من خدمها وحافظ عليها، ولكل من استعمل كل ما يملك من أجلها، صلاح الدين الأيوبى لم يعرفه التاريخ إلا أنه ذلك البطل المسلم، العربى لغة، وثقافة والكردى دما وأصلا؛ الذى حرر القدس بمنتهى الفروسية والنبل، لم يحررها بالقوة فقط، بل حررها بقوة الأخلاق والقيم والإنسانية قبل قوة السلاح والرجال والعتاد، صلاح الدين الأيوبى بتحريره للقدس حرر العقل المسلم من العديد من العقد التاريخية، من عقدة الضعف والهزيمة والخيانة، إلى عقدة الانتقام والتشفى، صلاح الدين الأيوبى حرر القدس بعد عمل لعقود تم خلاله إصلاح التعليم والثقافة، وإصلاح المجتمع وإعداده لهذه العملية التاريخية الهائلة، فكان مجتمعاً قادراً على تحرير القدس بعد قرنين من الاحتلال الأوروبى تحت راية الصليب وهو من أفعالهم براء.

لكن بركة القدس على صلاح الدين الأيوبى كانت أعظم مما فعله صلاح الدين للقدس، فلولا القدس لكان صلاح فى موقع آخر فى التاريخ، كان سيكون مع فصيل آخر من الحكام غير الذى هو فيه الآن، لأن ما فعله صلاح الدين مع الفاطميين فى مصر كان من الفظاعة بمكان، كان سيجعل صلاح الدين ضمن القادة الغلاظ الأفظاظ القساة؛ ولكن ما قدمه للقدس مسح صفحته مع الفاطميين ولم يبق من تاريخه إلا صفحة القدس.

لكن تحرير القدس فى منهج صلاح الدين الأيوبى كان مختلفا، لم يقف عند النصر العسكري، بل إنه اعتبر النصر العسكرى مجرد مقدمة فقط، فقد لاحظ أنه بعد قرنين من الوجود الصليبى فى المدينة المقدسة اندثر الوجود العربى المسيحى والمسلم أو يكاد يندثر، وأدرك أنه لا يمكن المحافظة على القدس بدون وجود البشر، لذلك تفتق ذهنه عن فكرة خطيرة، وهى أن يجذب الطرق الصوفية والتجار إلى القدس؛ فقام ببناء أو إحياء مقامات وقبور للأنبياء والصالحين، ودفع المتصوفة إلى تنظيم احتفالات لهم فى فترات مختلفة من العام؛ تأتى إليها الوفود من كل مكان فى العالم الإسلامي؛ لذلك نشأت حول القدس أحياء للمغاربة والسودان والأكراد وغيرهم.

ومن خلال الوجود الاجتماعى تم تحرير القدس، لذلك ما يحتاجه القدس الآن هو الحضور العربى المسلم والمسيحى فيها لإنقاذ أهلها، لمد يد العون لهم، لإنقاذ بيوتهم وأملاكهم التى تشترى وتباع بمئات الملايين التى يمولها أغنى أغنياء العالم من الصهاينة.

آن الأوان أن يدرك العرب أن القدس ليست ضمن مدن الاحتلال الإسرائيلى التى تنطبق عليها المقاطعة العربية المنافقة والفاشلة.. لا تقاطعوا القدس وازحفوا إليها ملايين من الحجاج المسيحيين والمسلمين ومن الزوار والمستثمرين والسياح.. القدس عربية.. ونحن من تنازل عنها بالمقاطعة الانتهازية الغبية. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟