المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
جميل مطر
جميل مطر

المجتمع في مصر أعمق من الدولة

الخميس 01/أكتوبر/2015 - 11:53 ص

كان الشعب يشكو، وكان الرد أن الدولة في مصر عميقة بل وشديدة العمق، ولعلها الدولة الأعمق بين كل دول العالم. قيل إن المؤسسات مترهلة والأجهزة البيروقراطية على جميع مستوياتها نخر فيها الفساد. أما النخبة السياسية، حسب ردود السلطة وبعض فقهاء السياسة، فمنعدمة الكفاءة وغير قادرة على النهوض بمسؤوليات المشاركة السياسية. من ناحية أخرى دأب الحكام على اتهام موظفي الدولة كافة بالاتكالية والإهمال وعدم الانضباط. قيل عن هذه الدولة العميقة إن في دهاليزها تتوه المسؤولية وتحاك الدسائس وتنسج المناورات وفي خزائنها تدفن المشروعات والأحلام.

تعددت النظريات ولم نسمع عن سبب واحد أو أوحد يبرر وجود هذه الحالة، حالة الدولة العميقة. قيل الكثير عن تلوث المنظومة التعليمية من جذورها حتى فروعها وثمارها العاطلة والمعطلة. وقيل أكثر عن النقص في الموارد، فالبلد فقير واستلمناه، كما تقول الجماعة الحاكمة، مدينا بل معدم. أيكون السبب تدني مستوى المسؤولين والعاملين في المؤسسات المالية وهي التي لا تحتكم على قوت يوم للشعب إلا بالاستدانة. أم يكون استهتار وفساد جماعات تواترت على حكم مصر وانشغلت بأمور أعضائها ومصالحهم. أيكمن السبب في تاريخ مصر وطبيعة جغرافيتها وحاجة نيلها إلى جهاز مرتب ينظم مساره ويوزع مياهه ويستفيد من ثرواته؟.

لا سبب أوحد، ولكن الجميع يتحدثون عن دولة عميقة. هؤلاء قالوا منذ اليوم الأول، ومازالوا يرددون القول، إن «الدولة» فى مصر فقدت هيبتها، أو كادت تفقدها، مثلما حدث أو كاد يحدث في الصومال التي فقدت دولتها هيبتها فاستحقت وصمة الدولة الفاشلة. كذلك فقدت الدولة في ليبيا هيبتها وها هم يتسابقون على من يشرف بإعلانها دولة فاشلة.

وفي تفسير حال الصومال وليبيا وحالات أخرى، يقال وبإصرار إنها النخبة السياسية الهالكة والمؤسسات المهترئة والبيروقراطية المتخلفة والفساد المستشري، كلها مجتمعة أسقطت هيبة الدولة. بمعنى آخر هي مجموعة «مكونات الدولة» سواء كانت هذه الدولة عميقة أم كانت مسطحة. فات على فقهاء نظرية الدولة العميقة حقيقة أن الصين كانت في القرن الثامن عشر «دولة عميقة» بالمعنى الذي يقصده أصحاب هذا المفهوم. هذه الصين نفسها، في نهاية القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين كانت كذلك دولة عميقة. كانت عميقة عندما فقدت هيبتها وكانت عميقة وهي تنهض وتحتل مكانة الدولة العظمى.

روسيا دولة عميقة حسب مضمون المفهوم الذي اعتنقناه. كانت عميقة قبل ثورة البلاشفة وهي الآن عميقة تحت حكم جماعة فلاديمير بوتين. كانت مثل الصين عميقة ومتخلفة ثم عميقة وناهضة. وبالتالي لا أشعر بحرج كبير أو بنقص شديد وأنا أعترف أنني لم أقتنع يوماً اقتناعاً كافياً بالقدرة الهائلة للدولة العميقة، القدرة على تعطيل الثورات وإحباط جهود الإصلاح وإفساد النوايا الطيبة للحكام وإهدار طاقات الشعب وتحجر الطقوس والممارسات الدينية.

الدولة العميقة، إن صح وجود دولة عميقة، لا يمكن أن تكون نموذجاً لتقدم سريع أو لثورة ناجحة، وتكون في الوقت نفسه نموذجاً لتخلف مزمن وثورات محبطة. أظن أن بعض أصدقائنا من علماء اجتماع السياسة ارتاحوا إلى مفهوم الدولة العميقة، وكذلك فعل حكام مصر في عهود متلاحقة، لأنه يوفر عليهم مشاق البحث عن أسباب أخرى قد يؤدي انكشافها إلى حرج شديد للمجتمع الأكاديمي المصري في ظروفه المتدهورة منذ سنوات، وحرج أشد، وأخطر، لتحالف الحكم الذي هيمن على مقاليد مصر على امتداد سنوات بل عقود. كلاهما يمارس منذ مدة «الإنكار»، إنكار أنه مقصر بدرجة أو بأخرى عن أداء واجب نشر الوعي بحقيقة حال «المجتمع المصري»، وكيف أن هذا «المجتمع» تدرج انحداراً خلال العقود الأخيرة حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن تحت سمع وبصر ائتلاف القوى الحاكمة وقادة العلوم الاجتماعية في مصر ومنظري عقيدة الدول العميقة. أعتقد أن مشكلة «الدولة» في مصر لا تقع ضمن حيز المؤسسات والأجهزة والنخب والمنظومات الهالكة أو المتدهورة. أذهب بعيداً فأزعم أن قادة مصر الراهنة يدركون جيداً حقيقة أن المشكلة لا تكمن فقط في «الدولة» التي فقدت هيبتها أو كادت تفقدها، ولكن في المجتمع. بل أكاد أتخيلهم يستخدمون مفهوم «المجتمع العميق» بدلاً من مفهوم «الدولة العميقة»، كحالة مصرية أصيلة وإن ليست فريدة. هذا المجتمع العميق قد يكون أقوى تأثيراً وفاعلية من الدولة العميقة كمصدر لكثير من أمراض هذه الدولة، وسبب فشل حكامها وبطء نموها.

نعم المجتمع عميق، ولعله أعمق من الدولة، ومسؤوليته عن الحال الراهنة لا تقل بحال من الأحوال عن مسؤولية «الدولة العميقة». أسمع من مسؤولين ومن أصدقاء حريصين على نجاح ما يسمى «التجربة الراهنة»، شكاوى عديدة من هذا «المجتمع العميق» وعن الأسباب التي جعلت منه مشكلة. أسمع منهم الاعتراف بأن المنظومة التعليمية هي المذنب الأعظم في قضية تخلف مصر، ولكني أسمعهم يضيفون همسا، ألم يكن الأهالي والتلاميذ جزءاً أساسياً من هذه المنظومة؟ أسمع من آخرين اعترافا بمسؤولية المؤسسة الدينية عن تدهور مكانة العقل والتحضر في المجتمع المصري لصالح الخرافة والوهم تحت اسم الفتاوى التي يشترك في تصعيد الطلب عليها الدولة والسلطة ومتاعب الإنسان العادي. هذه الفتاوى لا يتحمل وزرها ومسؤوليتها التاريخية والدينية الأزهر ورجال الدين الرسميين وحدهم بل يشاركهم فيها قطاع واسع من المجتمع. هذا القطاع هو الذي يستدرج المخربين والمنحرفين من رجال الدين ومن العاملين في الإعلام والمزايدين سياسياً ودينياً لإغراق المجتمع بفتاوى يتسلى بها أو يبرر بها بعض فساده وفسقه أو يعذب بها نفسه.. أظن أن كثيرين يتفقون معي في أن هؤلاء المخربين والمنحرفين يشكلون جانباً مهماً وعميقاً في المجتمع لا يقل خطورة عن جانب آخر، مهم وعميق أيضاً، يضم هؤلاء الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة وبأن مصر من دون بلاد الدنيا هدف دائم لكيان كوني أو «فوق الكوني» يسعى لتدميرها. يعتقدون بالوهم والخرافة أن المصريين، من دون شعوب الأرض ومخلوقاته، سوف يختفون من هذا الكوكب لصالح جماعة سرية تنظم شؤون الكون وتصنع أقدار الدول وسائر المخلوقات.!

لا يختلف هؤلاء الذين يتقبلون بسعادة ولهفة فتاوى الجنس والانحراف عن أولئك المتقبلين بسعادة ولهفة، وربما بقلق حقيقي، نظريات الكون المعادي لمصر. كلهم جزء أساسي من مجتمع عميق. أعمق كثيراً من الدولة المتهمة ظلماً أو عدلاً بالعمق. من هذا القاع العميق في المجتمع المصري يخرج كل يوم مسؤولون وبيروقراطيون ومصلحون دينيون واجتماعيون يطلون علينا من شاشات الإعلام ليعلنوا زعمهم أن القدرة الإلهية هي التي أرسلتهم لحماية هذا الشعب العريق من أعدائه المتربصين له تحت الأرض وفي السماوات. غير خاف بطبيعة الحال، أن الإيمان بخرافات وأساطير دينية ومؤامرات كونية «واستراتيجية»، مريح لأجهزة ومؤسسات في الدولة عجزت عن الوفاء بالتزاماتها أو فشلت في تقدير العمق الحقيقي للمجتمع وبالتالي فشلت في حل مشكلاته. ترسخ في ظنها أن هذا النوع من الإيمان يعفيها من المحاسبة على نتائج العجز والتقصير، ويحمل مسؤوليتها لعفاريت دولية ومحلية تضمر الشر للمصريين.

سألت في مصر السؤال الذي سألته في لبنان وأنا أدقق في مسألة تراكم القمامة. أيهما يتحمل الجانب الأكبر من المسؤولية، الدولة أم المجتمع؟ لن أستطيع في الحالتين أن أعفي «المجتمع العميق» في البلدين من مسؤولية نقص النظافة وتراكم القمامة، كما أنني لن أفلح في إقناع من حولي بأن «الدولة» سواء كانت عميقة أم مسطحة، بريئة من هذا الوزر الكبير. هنا وهناك يوجد فساد في الدولة وفساد في المجتمع ومن الصعوبة بمكان فصل هذا الفساد عن ذلك. المؤكد في الحالة اللبنانية أن الدولة ليست عميقة كالدولة المصرية، بينما يبقى المجتمع اللبناني كنظيره المصري عميقاً ومعقداً.

لم يفاجئني التصريح الشهير الكاشف عن نية تعديل الدستور. الدستور بشكله الحالي وضعه مؤسسون معتنقون نظرية الدولة العميقة، لذلك أفترض أن يكون صالحاً للتعامل معها. لكن أظن، ولعلي مخطئ في ظني، أن هناك في نخبة الحكم من بدأ يعتقد أن المطلوب في هذه المرحلة دستور يكون صالحاً للتعامل مع «المجتمع المعقد» وليس فقط مع الدولة العميقة، الأمر الذي فات على المشرعين حسني النية الانتباه إليه. لقد ثبت للمسؤولين عند الممارسة، كما يبدو لي على الأقل، أن دهاليز وتفاعلات وتعددية المجتمع لم تحظ بما تستحق من اهتمام مشرعي الدستور الراهن.

اكتشف المسؤولون، حسب ظني، أن مواد الدستور لا تغطي جوانب معينة في مجتمع لم يدرك الكثيرون من قبل درجة عمقه، وتتجاهل التغيرات التي طرأت عليه وعلى سلوكياته بعد الثورة وما زالت تطرأ، وأحياناً بعنف غير معهود أو بوسائل غير تقليدية. بمعنى آخر، الدولة العميقة التي بدت راسخة في أذهان مشرعي الدستور وازدادت رسوخاً بما شرع لها في الدستور تظهر الآن وبكل الوضوح الممكن عاجزة عن التعامل مع مجتمع ليس فقط سريع التغير، بل وشديد العمق.

 نقلاً عن الخليج

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟