فى الحادى عشر من أكتوبر الحالى تحل الذكرى السادسة لرحيل المفكر المصرى البارز والصديق الدكتور محمد السيد سعيد، وهذه الذكرى مناسبة لتأمل فكر الراحل العزيز أو على الأقل ما تيسر منه، وتأثيره فى مجريات الأمور، ذلك أن الناس وإن كانوا يتساوون أمام حقيقة الموت؛ إلا أنه من الناس من يرحل ولا يترك أثرا إلا فى زاوية ضيقة من أسرته وأقاربه، ومنهم من يرحل ولكنه يترك أثرا واضحا وبصمة لا تمحى بسبب تأثيره من خلال فكره وعقله وإنتاجه الثقافى والعلمى الذى يدخل فى تكوين ضمير الأمة وطبقات وعيها، ومن هؤلاء بل فى مقدمة هؤلاء الدكتور محمد السيد سعيد.
كان الراحل مفكرا من طراز رفيع، بل تقديرى أنه مفكر نهضوي بامتياز، واستلهم فى تفكيره ومنهجيته وعقله أنبل التقاليد النهضوية فى مختلف موجات النهضة المتلاحقة، حيث جسد بشخصه وعقله ووجدانه معظم أو أغلب سمات مفكرى عصر النهضة، حيث تميزت معرفته بالشمول والموسوعية فى أغلب جوانب علاقات الإنسان والمجتمع، واشتملت معارفه المنظمة والعلمية على السياسة والاقتصاد السياسى والثقافة والقانون والتاريخ والفلسفة، ولم يمتثل لحدود التخصص الأكاديمى الضيق بل تجاوز هذه الحدود.
من ناحية أخرى فإن الراحل الكبير مثله فى ذلك كمثل أغلب مفكرى عصر النهضة ـ قد استوعب فى ثقافته وعقله أنبل وأفضل ما فى الثقافة الغربية وكذلك أنبل وأفضل ما فى الثقافة الإسلامية من قيم ومبادئ ولم ير فى ذلك تعارضا من أى نوع، بل كان يرى أن التكامل بين ثقافاتنا والثقافة الغربية ضرورة ليست فحسب عملية بل أيضا إنسانية وأخلاقية، وأن المثقف والمفكر لن يكون مثقفا أومفكرا إذا ما تجاهل الطبيعة الكونية للقيم والمبادئ والمثل، وأن مساوئ الغرب الاستعمارى والعنصرى لا ينبغى أن تحجب عنا مكونات الغرب الأخرى الحضارية والأخلاقية والإنسانية، وأن ثمة فى الغرب من يناضل مثلنا من أجل ذات القيم الإنسانية، استلهم من الثقافة الغربية قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان ومن الثقافة الإسلامية العدل والمساواة التى أكدتها غالبية التقاليد الثقافية الإسلامية، ومن أجل ذلك لم ير تعارضا بين الاهتمام بالتقاليد العقلية والإنسية فى الثقافة الإسلامية وبين التقاليد العقلية والنقدية الغربية.
واستمرارا لاستيعاب التقاليد النهضوية حرص سعيد على المزاوجة بين النظر والعمل أو بين النظرية والتطبيق أو بين التفكير والممارسة، فهو لم يكتف بالتفسير والتشخيص والتحليل العلمى للظواهر السياسية والثقافية كما لم يكتف باقتراح الحلول والأدوات والأساليب والاستراتيجيات التى تكفل معالجة التشوهات والأداء وتعوق التقدم والنهضة، بل انخرط فى صلب هذه الاستراتيجيات والأساليب كفاعل ثقافى وسياسى ومناضل وناشط، حيث وضع مواثيق العمل للعديد من الجمعيات الحقوقية، وأسس وأسهم فى إنشاء العديد من هذه المنظمات والجمعيات وكتب ونشر مئات المقالات والدراسات فى مصر والعالم العربى وتوج نشاطه العملى برئاسة تحرير جريدة البديل ونقل معارفه وخبراته النظرية والعملية لجيل جديد من الشباب فى الدائرة الصحفية والحقوقية وغيرها، حيث كان يؤمن بأن التغيير الحقيقى هو الذى يأتى من المواطنين الأحرار وعبر تفجير طاقات الإبداع الكامن فى الإنسان والفرد والجماعة الوطنية من أجل اللحاق بالمدنية والتقدم.
جمع سعيد فى أعماله وكتاباته وأفكاره بين معظم اللحظات النهضوية أى اللحظة الليبرالية واللحظة العلمية والتقنية واللحظة الدينية، حيث دافع عن قيمة الحرية والديمقراطية كوعاء لممارستها ولكنه فى نفس الوقت لم يتجاهل العدالة الاجتماعية وضرورتها للتماسك المجتمعى وتحقيق النهضة وأولى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أهمية معادلة للحقوق المدنية وحرية التعبير، كما أدرك مبكرا أهمية التقدم العلمى والتكنولوجى وضرورته لتعظيم موارد الأمة ولكنه كان يدرك أن هذا التقدم العلمى بحاجة إلى بيئة عقلانية رشيدة وسياسات مختلفة نوعيا عن تلك السياسات التى كان يطبقها النظام السابق على الثورة، وكذلك كان يرفض الدولة الدينية ولكنه يدرك أهمية القيم الدينية فى حياة وثقافة المصريين وضرورتها الأخلاقية للتماسك والاندماج لقد استوعب سعيد جميع لحظات الوعى النهضوى ولكنه طور الكثير فيها وأضاف إليها بسبب اختلاف الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية، حيث راهن على حقوق الإنسان والديمقراطية والتغيير والمواطن باعتباره أداة هذا التغيير وغايته.
رسم الدكتور سعيد مبكرا صورة مثقف نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، حيث رأى أن مثقف التحرر الوطنى ودوره فى الطريق إلى التقلص والانتهاء، حيث إن نشأة هذا المثقف ارتبطت بالحقبة الاستعمارية والهيمنة الغربية ومقاومتها، وحمل ثقافة معادية للغرب والهيمنة الغربية، غير أنه ومع الاستقلال ووصول حركات التحرر الوطنى إلى السلطة وتغير علاقات الشمال والجنوب قد أثر ذلك فى معادلة مثقف التحرر الوطنى، وأفسح المجال لظهور نمط جديد للمثقف الوطنى بل للوطنية ذاتها، فمثقف المرحلة الراهنة ينبغى أن يعنى بالداخل وهموم الداخل وإعادة ترتيب البناء الداخلية بأكثر مما يعنى بمواجهة الغرب، ويكون جزءا من عملية التغيير وبناء المؤسسات.
ولم يكن ذلك يعنى عند سعيد نهاية السيطرة الغربية بل يعنى أنها اتخذت أشكالا أخرى مقنعة وأن التطور العلمى والتكنولوجى والعملية الكوكبية التى تسود العالم قد غيرت موقع العالم الثالث فى نظر الغرب ولم يعد هذا العالم مجالا حيويا للسيطرة الغربية بل أصبح ينظر إليه باعتباره عبئا بأكثر مما هو فرصة يمكن اغتنامها.
لم يرتبط مشروع سعيد النهضوى بأية نظام أو أية سلطة، حيث كان يرى أن النظام القائم والسلطة القائمة يرعيان التدهور والانحطاط والاستقرار وضعف الأداء الاقتصادى والسياسى، وحظى النظام والسلطة بنقد دائم ومعمق لأدائهما، كان مشروع سعيد النهضوى يؤمن بالمواطن الفرد والطاقة الكامنة لديه عند تحريره من ربقة الأطر السياسية والثقافية التى تعوق حركته وتفقده الثقة فى ذاته، كان يتوجه حيث يوجد هذا المواطن وكان يستخدم لغة مفهومة فى مخاطبته ولكنها سلسة وواضحة لأنها باختصار تعبر عن فكر واضح وصفاء ذهنى فريد. نقلا عن الأهرام