يبدو أن الهيمنة الأميركية على العالم آيلة إلى نكوص، بعد تراجع عقيدة بوش وعجزها عن أمركة النظام العالمي الجديد وغرقها في العراق وتغاضيها عن تقديم حل عادل للصراع العربي - الصهيوني وقصورها عن إجراء تسوية متوازنة في لبنان عدا مشكلات إيران ومنازعات سورية. وتتطلع واشنطن إلى المحيط الهادئ بعد صعود دول منافسة، خصوصاً الصين.
لكنّ أصواتاً تشير إلى نجاح واشنطن في السيطرة من خلال امتلاكها مقدرات القوة على المستويات كافة، وتحديداً قدرتها على تغيير البيئة الشرق أوسطية ومنها العربية بعد تحويل الصراع العربي - الصهيوني إلى لبناني- إسرائيلي إثر وضع جنوب لبنان في خدمة محور الممانعة الإيراني السوري بعدما خضع لدولة أبي عمار التي نهضت تدريجاً منذ اتفاق القاهرة سنة 1969 نتيجة إرسال المقاومين والمتطوعين عبر الحدود إلى لبنان الذي تم تحويله بعد حرب 1973 ساحةً لتنفيس أي احتقان يمكن أن يحصل، وتكرس إخراج سورية وسائر الأنظمة العربية من دائرة الحرب مع الكيان الصهيوني منذ 1974، والقضاء على المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني خلال الحرب الأهلية، ودخول سورية على خط الصراع مع دولة أبي عمار بعد القضاء على المقاومة في الأردن، وبهذا تم ضبط الحركة السياسية المناضلة والمعارضة وتدمير قوى التغيير عبر الحروب والسجون والنفي والتهجير والإفقار والقمع، كما تم استلاب النخب الفكرية والثقافية لمصلحة أنظمة معظمها استبدادي.
ينتمي الاستبداد إلى القرون الوسطى بأنظمتها العسكرية – الدينية على قاعدة البنية القبلية – العشائرية. وهو يستحضر «كل» مقومات القوة بما فيها العلم كي يقوي نفوذه ضد شعبه. فلا يجوز اعتبار السلطات الأمنية علمانية وهي تعادي العقل وتلجم دوافع التطوير وتمنع العلم عن سباق التقدم، لأن الثبات في نهجها صفة لصيقة بالحكم الديكتاتوري المرتكز على القمع والجهل والفقر. ولهذا نرى «الدولة» محجوراً عليها لمصلحة السلطة، والاقتصاد ينهب ويهدر فلا يقوم بأود الشعب وحاجاته المتنامية: أكثر من ثلث المجتمع العربي تحت خط الفقر، والمؤسسات منهارة ومتحولة إلى أجهزة، والاجتماع مشظى تحت سيف السلطة بقوة إرهابها.
إن اتهام قوى الديموقراطية بأنها أقرب إلى الإسلاميين بسبب عدائهم للسلطة، هو شيء من عدم الإنصاف، فالإسلام ليس واحداً وهكذا السلطات، والعمل على منع تغوُّلها يهدف إلى وقف التهامها الدولة ومؤسساتها وابتلاعها المظاهر المدنية، رغم ضعف مكوناتها في بلادنا.
والديموقراطية ليست فقط مفاهيم للحكم وإنما هي منظومات للحياة وسلوكيات للعيش وقواعد للعلاقات والمعاملات على جميع المستويات. فالتحليل لا يستوي إذا اعتمد على فصل تعسفي بين الديموقراطي والليبرالي، وحشر العلماني في جعبة «الدولة» الأمنية وربط التحالف بين الإسلامي والديموقراطي في العداء للسلطة، كأن الإسلاميين خارج نطاق الاستبداد. إنها رؤية ضبابية تدافع عن أنظمة أوتوقراطية بعينها.
وعندما تلخَّص ساحة المعركة بثالوث قوامه أميركا والنظام (السوري) والإسلاميون، يفـــقد التفكير العقلاني أرجحيته فذلك إهمال للصراع بــين قوى الـــعولمــة وقوى الدولة القومية بكل ما يعني ذلك من امتــدادات إلى بلادنا التي هي خارج المجتمع الدولي.
لقد تدهورت الحركة اليسارية وتمزقت عبر تحولاتها إلى اتجاهات ليبرالية، أو ما تحت قومية تابعة للنخب الحاكمة، ومن علامات انحلالها، تحالفها مع الحركات الدينية الملتحقة بالسلطة والشعارات التي انضوت تحتها بقايا اليسار الرسمي أنهت نضاليتها وأدخلت كخرق ممزقة، إلى القومية عبر «البعث» السوري، وإلى الجهادية عن طريق نظام ولاية الفقيه، وتم تجنيدها ضمن أجهزة الاستبداد كـ «لقيط معاق». وتحول بعض أطراف الحركة «الشيوعية» (اليسار الجديد- حركة الإنقاذ – المكتب السياسي) إلى الليبرالية الديموقراطية، وتمسّك البعض الآخر (رياض الترك) باستقلاليته آخذاً مسافة حاسمة عن الأنظمة الاستبدادية. ما يدلّ على تناثر الشيوعيين وتحوُّلهم إلى طرف يستعمله سيده.
تتغذى الليبرالية عضوياً من مراجعي الماركسية الذين يحاولون تخليص ماركس من لينين ومن ستالين على نحو أقوى، ويعتبرون مؤسس الشيوعية فيلسوفاً شرح «رأس المال» وأفاض في تبيان إيجابياته وأشار إلى سلبياته كنقاط للحل، وتوقع اضمحلال الدولة مع عالمية رأس المال وتحول العامل إلى مهندس، وترك منهجاً للتحليل يجب تطويره باستمرار....الخ، (عاش ماركس الاقتصاد الصناعي ولم يعاصر اقتصاد المعرفة الذي سيّل الطبقات...الخ)، كما تتغذى من قوى قومية استعادت وعيها الحضاري، ومن أطراف وطنية تجاوزت عقدة المقاومة (أبو مازن تولى الرئاسة تحت شعار لا للمقاومة العسكرية والعمليات الفدائية). كذلك هناك حركات اجتماعية، طالبية – عمالية – نسائية – نقابية لا تني تتوسع تبعاً لتطور المدنية العام. وهناك ظهور لفئات متعلمة وقفت على مسافة من الأحزاب في شكل نقدي وفي تجاوز للطائفية فهي معالم نيرة جديدة في البناء الليبرالي يمكن أن يخرجه من ضعفه البنيوي ويهيئه إلى اختراق الشعبوية والشوفينية والقومجية والجهادية الأصولية، وعلى نحو أكثر إدراكاً أن يقف في مواجهة الاستبداد بأنظمته الدينية والأمنية – العسكرية والأسروية.
ولا ينتظم إنتاج أكثرية جديدة قادرة على الفعل الإيجابي كوطنية تقدُّميّة، مع استمرار أنظمة الاستبداد الرافضة التحوُّل عن طريق الإصلاح إلى الديموقراطية، فكيف بالتغيير؟
لقد بدأ العالم الحضاري عبر وحداته الكبرى بتجاوز الدولة المركزية نحو الدولة الإدارية، أي من دولة القانون القومية إلى دولة الحق العالمية، ويرتقي من هويته الوطنية إلى الهوية الأممية نحو العولمة، ويمضي بالفردية المبدعة لتكون المؤسسة الخلاقة، ونحن في مهاوي غياب الدولة الحديثة منذ العصر العربي – الإسلامي حتى اليوم، والفرد تأكله الجماعة، والمجتمع يختزله الحزب الذي يختصره القائد المفدى وابنه «الوريث» الوحيد لشعب مغيب.
فشل النظامان الأوتوقراطي والثيوقراطي في السير ولو خطوة واحدة باتجاه الإصلاح، بل تماديا في تدمير قوى التغيير. نقلا عن الحياة
* كاتب لبناني مقيم في فرنسا