المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. نصر محمد عارف
د. نصر محمد عارف

التدمير الذاتى وتحطيم النماذج

الإثنين 12/أكتوبر/2015 - 10:58 ص

الأمم جميعها تتقدم وترتقى مدفوعة بطاقات خلاقة تستمدها من النماذج الرائدة فى تاريخها، تلك النماذج الشخصية والجماعية التى تمثل محفزاً قيمياً، وقدوة سلوكيةً، وحالة لتجلى روح الأمة يتمنى كل إنسان فيها أن يعيشها أو ينتسب إليها أو يكررها، جميع الأمم على مر تاريخ البشرية محكومة بهذا القانون الاجتماعى؛ الذى يربط مستقبلها بمقدار صناعة الحلم المستمد من أنصع نقاط تاريخها؛ الذى صنعته نماذجها الناجحة، وتجاربها الرائدة وقياداتها الملهمة.

سيظل الأمريكان أبد الدهر يتطلعون إلى نموذج الأباء المؤسسين، والقيادات الفذة مثل إبراهام لنكولن، وجون كيندي، وسيظل الفرنسيون يفاخرون العالم بثورتهم وبرواد عصر الأنوار من الفلاسفة والكتاب والشعراء، وسيظل الأفارقة الأمريكان يحلمون مع مارتن لوثر كينج، والهنود قائدهم الأبدى الماهاتما غاندى.الخ.

جميع هذه الشعوب تحافظ على نماذجها الفردية والجماعية، تركز على نجاحاتها وفضائلها، وتغض الطرف عن نواقصها وسلبياتها، تقدم للأجيال التالية أنصع ما فى تاريخ هذه النماذج، وتتجاهل كل السلبيات والنواقص بل تخفيها تماما، لأنها تعرف أنه لا تربية ولا تعليم بدون قدوة، ولا تقدم دون نماذج ناجحة، تمثل القدوة التى يطمح كل جيل فى تكرارها، وإعادة إنتاجها؛ لأن الأمم الناجحة السائرة على طريق التاريخ الذاهب إلى المستقبل تدرك أن دورها هو توظيف نجاحات نماذجها التاريخية فى صناعة المستقبل، وليس محاكمة تلك النماذج وتشويهها.

هذه الأمم السائرة على طريق التاريخ الذاهب نحو المستقبل، تدرك أن محاكمة الماضى لا قيمة لها إلا إذا كانت تسهم إيجابياً فى صناعة المستقبل، أما المحاكمة المتألهة التى تتقمص دور الخالق يوم القيامة، والتى تريد أن تدين فلانا، أو تنصف فلانا فلا موضع لها إلا إذا كان ذلك لمنع الناس من الوقوع فى تكرار نموذج سلبي، هذا بالإضافة إلى المحافظة على نقاء النموذج، وعدم تشويهه أو تدميره أو إلحاق صورة سلبية به.

أما الأمم السائرة على طريق التاريخ الراجع إلى الخلف فلا تدرك هذه الحكمة، وتقوم وبدرجة فائقة من الحماقة والبلاهة بتدمير نماذجها وتشويهها، وأحياناً إيجاد نموذج معاكس يقضى تماما على النموذج الأول الناجح، حتى إنها تصل إلى درجة من العدمية تفتقد معها وجود أى علامة مضيئة فى تاريخها، وتعالوا نرى ماذا صنعت أمتنا؟

أولا: صنع الشعب الجزائرى العظيم أيقونة ثورية فى ستينيات القرن الماضي، كانت نموذجاً ناصعاً فى تاريخ البشرية؛ جذب أحرار العالم إليه، وكان ملهماً لثورات العالم فى القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية صنع الجزائريون نموذجا عرفه العالم وتفرد باسم «ثورة المليون شهيد». غير أن قوى التدمير الذاتى التى تقود الأمة إلى السير فى طريق التاريخ الراجع للخلف تحركت من ذاتها، أو بتوجيه من أتباع صاحب الكلب عالم النفس الروسى بافلوف، وقامت بعد عشرين سنة فقط من صناعة النموذج الملهم «ثورة المليون شهيد» بتدمير هذا النموذج وتشويهه؛ من خلال نموذج معاكس وهو «إرهاب المليون ذبيح» طاقة هائلة فى التدمير وللأسف بإسم الدين، الذى صنع النموذج الناصع الأول... بارعون نحن فى التدمير الذاتى وفى تحطيم النماذج حتى يكون مستقبلنا فى مهب الريح وفى عالم الفراغ.

ثانيا: كانت حركة مقاومة الغزو الروسى لأفغانستان نموذجا فى مواجهة أعتى قوى العالم بوسائل وأدوات بسيطة، قدمت التضحيات وسطرت نماذج من البطولات، ولكن مسارعة الحركات الإسلامية الانتهازية التى أرادت توظيف نموذج أفغانستان لتحقيق مكاسب سياسية فى أوطانها، صنعت من أفغانستان مصنعاً للإرهاب الهمجى الذى لا يعرف ماذا يريد، وتحولت أفغانستان بعد سنوات قليلة إلى أكبر مجزر بشرى للقتل المستمر فى التاريخ، وعلى أيدى أمراء الجهاد، ورفقاء السلاح، ولكن بصناعة فكرية من عالمنا العربى ومن الحركات السياسية الانتهازية. وتم تحطيم نموذج الجهاد ضد المعتدى الخارجي؛ وتحويله إلى نموذج معاكس، وهوقتل المسلم المخالف فى الموقف السياسى أو فى اللباس أو فى طول شعر لحيته..بارعون نحن فى التحطيم والتدمير وتصدير أسوأ ما لدينا للأجيال القادمة.

ثالثاً: لم تجتمع الشعوب العربية فى تاريخها على قضية واحدة مثل اجتماعها على قضية فلسطين، ولم يوحدها هدف مثل القدس الشريفة ولكن بسبب انتهازية القيادات السياسية بدأ النموذج الفلسطينى يتكسر فى أذهان الناس، فمنذ وقوف منظمة التحرير مع صدام فى غزوه الكويت ثم ظهور حركة حماس تحولت قضية فلسطين من قضية أمة إلى قضية أحزاب قومية أو إسلامية.وجاءت الطامة الكبرى عندما تاجرت حركة حماس بقضية فلسطين لتحقيق مكاسب للحركة، ومن ورائها تنظيم الإخوان فتحالفت مع إيران، ثم عرضت قضيتها للبيع فى سوق واقف بالدوحة القطرية وأخيرا دخولها فى الشأن الداخلى المصري، وتوهمها فى أنها ستحقق ما فشل التنظيم الأم فى تحقيقه، وتحولها إلى بوق إعلامى ضد مصر من خلال قنواتها فى لندن وغيرها مثل قناة الحوار وقناة القدس، وأخيرا تدخلها العسكرى فى شمال سيناء. هنا تحطم النموذج، وتم تدمير صورة حركة التحرر من أعتى وأسوأ استعمار عرفته البشرية وهو الاستعمار الاستيطانى العنصرى الصهيونى، تحولت إلى جناح لحزب سياسى فاشل فى دول أخرى أليس هذا تحطيما لنموذج، وتشويها لقضية، وإفشال لمشروع أمة.

رابعاً: جاءتكم داعش لتشوه التاريخ وأقدس لحظاته، وأعلى مثالياته، فرفعت راية النبى الأكرم صلى الله عليه وسلم فى مواقف متوحشة لا تقبلها النفس البشرية التى لا تؤمن بدين فما بالك برسول الرحمة صلى الله عليه وسلم؟ثم شوهت خلافة الراشدين فأطلقت على عصابة إجرامية مريضة عنواناً ناصعاً فى تاريخنا «خلافة على منهاج النبوة»، وما هى إلا عصابة على منهاج هولاكو وجنكيز خان وعلى شريعته، ثم شوهت الفقه وأحكامه؛ وأطلقت لشهوات مجموعة من المهووسين جنسياً العنان تحت عنوان السبايا، وملك اليمين، وأخيرا جهاد النكاح.أقصى درجات التشويه والتدمير لأنصع نماذج التاريخ.وللأسف نحن جميعاً صامتون، ومازلنا نرى أن هؤلاء ضمن حظيرة الإسلام، فعلاً هم فى حظيرة، ولكنها حظيرة أخرى تنتمى إلى مخلوقات أخرى غير بنى البشر.

هذه عمليات التدمير الكبري، ولكن هناك عمليات أصغر يقوم بها أعضاء الجماعات الفاشلة كل يوم يشوهون كل القيادات الوطنية وكل الرموز الثقافية فى مصر والعالم العربى من سعد زغلول إلى جمال عبدالناصر، ومن الشيخ الباقورى والشيخ الشعراوى إلى أم كلثوم، جميع من لم يكن معهم يصنعون له سيئات، وكأنهم يحصون على العباد هناتهم يوم القيامة،. ألسنا بارعين جدا فى هدم وتدمير النماذج؟ نقلا عن الأهرام

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟