المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
رغيد الصلح
رغيد الصلح

الدولة العربية بين الأحادية والتعددية القومية

الخميس 29/أكتوبر/2015 - 11:34 ص

رغم مضي قرابة أسبوع على مؤتمر وزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وتركيا الذي انعقد في فيينا لبحث المسألة السورية، فإن النتائج التي أسفر عنها لا تزال موضع اهتمام المعنيين بهذه المسألة. وينصب الاهتمام، في أكثر الحالات، على محدودية النتائج التي أسفر عنها الاجتماع، وعلى الغموض الذي أحاط بالبعض منها، مثل تأكيد ضرورة الحفاظ على وحدة سورية. فالانطباع السائد هو أنه ما دامت الحرب مستمرة، فإن هذه الوحدة التي عمل السوريون منذ ولادة الدولة السورية على صيانتها، باتت معرضة للخطر. بل يعتقد العديد من المعنيين بالشأن السوري والعربي عموماً أن قطار الانفصال إذا أقلع من أية محطة عربية، فإنه سوف يندفع بسرعة كبيرة للانتقال إلى محطات عربية أخرى، خاصة تلك المهيأة لاستقبال الدعوات والمشاريع المهددة لتماسك الكيانات العربية وتوحدها. ومن هنا كان التساؤل عن معنى تمسك وزراء خارجية الرباعية الدولية -الاقليمية بوحدة سورية، إذا لم يقترن بتقدم ملموس على طريق إيجاد حل سلمي للصراع العسكري على الأراضي السورية.

ولكن إلى جانب هذه التساؤلات، وعلى هامش النشاط الذي تبذله القوى الدولية والاقليمية المعنية بالشأن السوري، فإن المناقشات لم تتوقف بين أهل الرأي حول البوابات والمداخل والمعابر الفكرية والسياسية التي يمكن أن يلجها أهل القرار من أجل إعادة السلام إلى الأراضي السورية. في هذا السياق، تتناول المناقشات حول المسألة السورية أبعادها المتنوعة وخاصة بعدها الوطني. ويتطرق المتناقشون إلى نموذجين من الحلول والمقاربات: واحد ينطلق من مشروع الدولة الأحادية القومية، وآخر يستند إلى فكرة الدولة المتعددة القومية. عندها يكتشف المشاركون في هذه المناقشات أنهم لا يبحثون مستقبل سورية فحسب، وإنما أيضاً حال كثرة الدول والكيانات العربية وخاصة العراق، فلسطين، السودان، ليبيا، اليمن، الصومال...

إزاء هذه المشكلة المتفاقمة العابرة للحدود العربية، يرى المتمسكون بالدولة الأحادية القومية أن مشروعهم هو الأقرب إلى التحقق لأنه ينطلق من واقع العلاقات الدولية، فالنظام الدولي الراهن يستند إلى فكرة القومية الأحادية، أما فكرة الدولة المتعددة القومية فما زالت مشروعاً قيد التجربة والدرس والمراجعة. صحيح ان هناك مطالبات كثيرة بالتخلي عن فكرة القومية الواحدة التي تعتنقها الدولة سواء كانت عربية أو سورية أو عراقية، وصحيح أنه هناك جماعات تقدم بدائل عن فكرة الدولة الأحادية القومية أو الوطنية، إلا أن الفكرة الاكثر انتشاراً، في رأي البعض، هي فكرة القومية الواحدة.

خلافاً لهذا الرأي، يعتقد فريق من المعنيين بمستقبل الدول العربية أن الحفاظ على وحدتها الترابية يقتضي التفكير في التخلي عن فكرة الدولة الأحادية القومية، واستبدالها بفكرة الدولة المتعددة القومية. ويصل البعض من منتقدي فكرة الدولة الأحادية القومية إلى الاعتقاد ان هذه الدولة لم تتحقق في أي يوم من الأيام، وان كافة الدول وفي كافة العصور كانت تضم اثنيات وقوميات متعددة، كما كتب سوجيت شودري في كتاب «المناهج الدستورية في المجتمعات المنقسمة: الدمج أو الاستيعاب». ويذهب آخرون إلى الاعتقاد بأن فكرة الدولة ذات القومية الواحدة ربما كانت مناسبة للقرنين التاسع عشر والعشرين، ولكنها لم تعد صالحة للقرن الواحد والعشرين. فعندما تأسست عصبة الأمم خلال العشرينات، لم يكن من الصعب أن يعثر المرء بين دولها الأعضاء الاثنين والاربعين على عدد من الدول التي تمتلك التماثل القومي والقومية الواحدة، أما اليوم وبعد أن تضاعف عدد الدول الأعضاء في منظمة الامم المتحدة أربع مرات بالمقارنة مع أعضاء عصبة الأمم، فإن الدولة ذات القومية الواحدة حقاً أصبحت محصورة في عدد محدود من الدول لا تتجاوز نسبته وفق إحصاءات نشرها دافيد ولش في كتاب «النزاعات الاثنية والأمن الدولي» عشرين بالمئة من عدد أعضاء الامم المتحدة (الإحصاءات تعود إلى عام 1993 عندما كان عدد أعضاء المنظمة الدولية حوالي 180 عضواً).

انطلاقاً من هذه الملاحظات والمعطيات، يقترح التعدديون الأخذ بنموذج الدولة المتعددة القومية كبديل عن الدولة ذات القومية الواحدة. وتجد هذه الدعوة صدى أكثر إيجابية لدى بناة التكتلات الاقليمية خاصة أنهم يعتقدون أن بعض الاقاليم الفرعية المرشحة للانفصال عن الدولة القومية قد تكون مستعدة للانضمام إلى التكتل الاقليمي الكبير، أي الاتحاد الاوروبي، كما يرجح دعاة انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة أو اقليم كاتالونيا عن اسبانيا.

إن استبدال دولة القومية الواحدة بالدولة المتعددة القومية ليس أمراً سهلاً وتعترضه صعوبات متنوعة. ولعل أهم هذه الصعوبات هو ما تجسده الصين التي هي دولة شيوعية، من جهة، ولكنها قومية بامتياز، من جهة اخرى. فهي المثال الاهم لدول القومية الواحدة أي للهان الذين يشكلون ما يفوق التسعين في المئة من سكان الصين، وهم أكبر اثنية في العالم أجمع، اذ تبلغ نسبتهم 19 في المئة من مجموع سكان الكرة الأرضية. وتجسد هذه الأرقام تفرد الصين واختلافها عن سائر دول العالم. بهذا المعنى، تقدم الصين دليلاً محسوساً على إمكانية نشوء دولة القومية الواحدة، ولكن الأرقام تقول ان هذا النموذج غير قابل للتكرار في دول أخرى ولكن ربما في تكتلات اقليمية تضم مجموعات من الدول.

من التحديات الأخرى المهمة التي تحد من جاذبية نموذج الدولة المتعددة القومية، هي تلك المتعلقة بتنظيم الشراكة بين هذه القوميات. ففي أغلب الحالات، تضم هذه الدول قوميات متباينة من حيث عدد أفرادها وفاعليتها ومساهمتها في الشأن العام، ومن الطبيعي أن تؤثر هذه العوامل على طبيعة مساهمتها ودورها في المجتمع. كذلك من الطبيعي أن يؤدي هذا التفاوت داخل الكيان الواحد إلى تنافس مع مكونات الدولة المتعددة القومية حول اعتلاء الموقع المناسب في سلم القوة. هذا ما يجري حالياً في كافة الدول العربية التي أشرنا إليها اعلاه. ففي العراق مثلاً، تمكن الاكراد العراقيون الذين كانوا مبعدين عن التراتبية السياسية في الماضي، من احتلال مواقع بارزة في هذه التراتبية، واكتساب مكانة مهمة في السياسة العراقية قد تتجاوز الحجم العددي للاكراد العراقيين، ولكنها تعبر عن ميزات أخرى يتمتعون بها.

سواء توصلت الدول العربية إلى الاقتناع بمزايا الدولة ذات القومية الواحدة او المتعددة القومية، فإن من المهم الاخذ بعين الاعتبار ان الحفاظ على الوحدة الترابية لهذه الدول يقتضي الكثير من الهندسة السياسية الخلاقة. هذا يقتضي ان تبنى الترابية السياسية على نحو يعبر بدقة عن حجم مكونات المجتمعات العربية وحقوقها الطبيعية ويستجيب بصورة معقولة ومتوازنة لمصالح هذه المكونات ومطالبها المشروعة. كما أنه من المهم أيضاً ان تقوم في هذه الدول، القومية الواحدة أو التعددية، أنظمة سياسية تملك القدرة على التفاعل مع المتغيرات ومع التطورات المجتمعية. تتجسد هذه القدرة عادة في الاكتشاف المبكر للظواهر المستجدة التي تتكون بعيداً عن الانظار حتى إذا جاءت اللحظة المناسبة، تتحول هذه الظواهر إلى ما يشبه الاعاصير التي تطيح بالدول سواء كانت أحادية، ثنائية او تعددية القومية. المطلوب ليس إعادة السلام إلى المجتمعات العربية المنكوبة فحسب، بل قيام أنظمة سياسية تغلق الابواب أمام الحروب الاهلية والمحلية وتفتح الباب أمام التطور السلمي المؤكد.

نقلاً عن الحياة

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟