المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
جميل مطر
جميل مطر

الغياب الأوروبي

الخميس 29/أكتوبر/2015 - 11:37 ص

تعددت المبادرات لتسوية الأزمة السورية، ليس بينها مبادرة واحدة حجزت لأوروبا دوراً مهماً فيها. صارت أوروبا، وإن ببعض المبالغة، مثل الأمة العربية، جماعة إقليمية بلا دور تلعبه في الأزمات الدولية والإقليمية الحادة، حتى في أزمات تخصها يؤذيها استمرارها ويفيدها تسويتها. ممثل عربي أو آخر قد يظهر في الصور ولكنه يظهر لأنه طرف في القضية أو سبب فيها. نستطيع بقدر من الصبر فهم الأسباب التي جعلت أوروبا، الجماعة والاتحاد، تتنازل عن كثير من أدوارها في النظام الدولي، وتنكفئ على نفسها دولة دولة أو أزمة أزمة. أما فهم الأسباب التي جعلت العرب، أمة ودولاً وجامعة عربية، يتخلون ليس فقط عن أدوار يلعبونها بل عن هويتهم، فهذا يحتاج إلى صبر أطول. أخشى أن نتوصل إلى هذا الفهم بعد فوات الأوان، ساعتها ومع استمرار التدهور بمعدلاته الراهنة تكون الأمة العربية قد دخلت في اختصاص علماء الأجناس وحفنة من المؤرخين، ولا تقع في حساب أو اهتمام علماء السياسة والعلاقات الدولية.

أشم فيما أكتب اليوم رائحة تشاؤم وأقرأ في كتابات أكثرنا نبرة تشاؤم، واعترف هذه المرة بأنها مبررة بدليل هذه القروض التي هي في حقيقة أمرها اقتطاع من احتياطيات كانت محجوزة لحماية الجيل القادم من إسراف أبناء الجيل الراهن وإهماله وفساد بعضه.

تجتمع أسباب انحسار دور أمتنا العربية ودولنا جميعها حول محور واحد، هو في رأيي سوء إدارة شؤون بلادنا وتدهور القيم وخرق الحقوق والحريات.

أسهل نسبياً فهم أسباب انحسار نفوذ أوروبا ودورها. هذا النفوذ المتقلص الذي أصبحنا نعايشه ونراه في كل صورة لمنبر يناقش أزمة عربية أو شرق أوسطية، أحياناً نرى على المنبر بين الجالسين سيد أو سيدة تجلس أو يجلس وأمامها أو أمامه علم الاتحاد الأوروبي، ولكن وجود الشخص والعلم أمامه صار لا يعني الكثير لمراقب يبحث عن دور لأوروبا في مبادرة لتسوية جانب في صراع عربي «إسرائيلي» أو تهدئة الأطراف المتحاربة مع الأرض السورية.

صحيح أن هذا المراقب لن يجد للجماعة العربية، ممثلة في جامعتها أو في أي تنظيم أو حلف إقليمي، دوراً مؤثراً في أي أزمة آسيوية أو أفريقية بل وفي كثير من الأزمات الحديثة، إلا أنه يظل واضحاً أن العرب لم يكونوا يوماً طرفاً في القيادة الدولية، ولم يكن لهم باع كبير في تقرير مصير الشعوب، باستثناء فترات متناثرة، يبدو أنها كانت استثناء في قاعدة هي الآن راسخة.

صعب أن نقرر أن الأوروبيين المعاصرين يتسمون بسمات وطموحات الأوروبيين الذين حملوا رسالة وعبء إقامة وحدة أوروبية. عاش الأوروبيون قبل خمسين أو ستين عاماً في حلم ثلاثي الأبعاد: الرخاء والأمن ومنظومة قيم إنسانية متحضرة. المقاييس أغلبها تشهد على أن الحلم بأبعاده المثلثة تحقق إلى حد كبير في الدول التي قادت عملية الوحدة. هذه الدول التي أطلق عليها دونالد رامسفيلد عبارة أوروبا القديمة، أو العجوز، إمعاناً في التعبير عن كراهية المحافظين الجدد الأمريكيين لها. هذه أوروبا القديمة حققت درجة عالية من الرخاء مشفوعة بدرجة لا بأس بها من الرعاية الاجتماعية، فتفادت بدرجة أو بأخرى تداعيات تفاقم ظاهرة اللامساواة التي رافقت صعود الرأسمالية في شكلها النيوليبرالي وأزماتها الخانقة.

احتمى الأوروبيون بنظم متقدمة من الرفاه، فلم ينتبهوا إلى الشيخوخة التي تسربت متدرجة حتى تمكنت من مجتمعاتهم فهيمنت، وإلى فساد الشركات الأعظم الذي استطاع أن يتمدد في الاقتصادات الأوروبية. أضف حقيقة أن صعود الصين، رغم تدرجه وشفافيته، باغت الأوروبيين فلم يستعدوا له الاستعداد المناسب. احتمى الأوروبيون أيضاً بشبكة دفاعات أمريكية وفرت عليهم جهد وتكلفة إقامة نظام أمني أوروبي متكامل و باستقلالية تكسب له الصدقية اللازمة في النظام الدولي. هنا أيضاً وكما حدث في أعقاب الأزمة المالية الأمريكية، انكشفت أمام الأوروبيين حقيقة الحالة الأمنية كما انكشفت حقيقة أوضاعهم الاقتصادية.

من ناحية أخرى حلت الأزمة الأوكرانية فكانت بمثابة الجرس الذي نبه الأوروبيين إلى عودة الصراع على قيادة القارة الأوروبية، في غياب أمريكا.. المهيمن الخارجي، وإلى مغزى عودة هذا الصراع على أمن القارة والأمن الدولي بصفة عامة.

من جانب آخر، أفاق الأوروبيون القدماء، أي سكان أوروبا الغربية، على وضع لم يكن في حسبان الآباء المؤسسين للوحدة الأوروبية، كان في حسبان هؤلاء القادة أن غرب أوروبا قد اختار «الاعتدال والوسطية الإيديولوجية» طريقاً ثابتاً يسلكه نحو الوحدة، لا فاشية ولا مغالاة رأسمالية ولا شيوعية ولا توجهات امبراطورية أو توسعية. الآن تنتشر في القارة تيارات على اليمين تمارس أدواراً سياسية في بعض الدول الأوروبية مدفوعة بظروف هجرة واسعة من إفريقيا وآسيا. ومدفوعة أيضاً بفورة في النعرات القومية تقودها قوى شبابية تطالب باستقلالية أكبر للدولة الأوروبية في مواجهة هيمنة المفوضية في بروكسل.

معروف أيضاً بأن ظروف الفجوة بين رخاء شمال أوروبا وتواضع النمو في جنوبها دفعت إلى السطح بتيارات يسارية هي معتدلة حتى الآن، ولكنها تنمو وتتمدد بسرعة إلى حد أنها اقتربت من تولي مقاليد السلطة السياسية في أكثر من بلد، تولتها بالفعل في اليونان وقد تتولاها قريباً في إسبانيا وإيطاليا وربما المملكة المتحدة.

لم يكن رامفسيلد مخطئاً تماماً عندما تنبأ بمشكلات تطرحها دول شرق أوروبا، أو أوروبا الجديدة كما أطلق عليها. كان مجرد الانضمام المتأخر من جانب هذه الدول للاتحاد الأوروبي سبباً لإثارة قضايا ومشكلات شديدة التعقيد. الآن وبعد عقدين أو ثلاثة من العيش تحت مظلة الاندماج الأوروبي يبدو واضحاً أن المشكلات في ازدياد، بل كدت اقتنع بأن أزمة الهجرة «الإسلامية» الأخيرة كانت كالمجهر الذي أبرز تفاصيل لم يكن العالم الخارجي على دراية بها، أغلبها يؤكد حقيقة أن أوروبا ما زالت من جزأين، وربما أجزاء متعددة، وأن ما تحقق من اندماج مهدد بالانحسار، وأن هناك - وهو الأهم - فراغاً في القيادة بدأ يخيم بأشباحه على القارة.

غير خاف على الأوروبيين، أو علينا، أن ألمانيا تحملت فوق قدرتها على التحمل مسؤوليات قيادة القارة في ظروف هي الأسوأ منذ حروب البلقان التي انتهت بخريطة سياسية جديدة لدول الإقليم، غير خاف أيضاً أن ألمانيا ذاتها صارت في حاجة ماسة لاستعادة حيوية داخلية وعملية تطهير تعيد للاقتصاد الألماني المعتمد على التصدير سمعته ومكانته.

أوروبا غائبة عن أزمات الشرق الأوسط. نستطيع أن نجد لهذا الغياب مبرر أو آخر، ولكننا لا نستطيع أن نقلل من خطورة استمرار هذا الغياب ليس فقط على أمن الشرق الأوسط وبخاصة بعد أن صار لتركيا وإيران في نظر الأوروبيين حق ودور في صنع مستقبل هذا الإقليم، ولكن أيضاً في التأثير في أمن أوروبا ومستقبل الغرب بأسره.

 

نقلاً عن الخليج

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟