فى اليوم التالى لإعلان نتائج المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية، جاءت بعض عناوين الصحف لتحمل نوعا من الرثاء على ثورة 25 يناير، فقد فاز وفقا لإحدى الصحف 70 نائبا من الحزب المنحل، ووفقا لصحيفة أخرى فاز 84 من الوطني. وأيا كان الرقم الصحيح فالمضمون واحد وهو أن بعض المصريين اختاروا العودة للوراء وفقا للعديد من الآراء والتحليلات التى نُشرت على مدى اليومين الماضيين، وبعض هذه التحليلات ربطت هذه النتيجة بما وصفوه بسلوك السلطة السياسية المتساهل مع الرموز القديمة التى كان يجب أن تختفى تماما من الحياة السياسية ما بعد يناير 11 ويونيو 13. والسؤال الذى لم يجب عليه هؤلاء هو هل فوز بعض الأعضاء لحزب تم حله قانونيا ولم يثبت على أى منهم الانخراط فى عمل يحول دون مشاركتهم فى الانتخابات وفق القانون يُعد عودة لحزب أو قوة وعصبية لأفراد بعينهم إضافة إلى خبرتهم الذاتية فى إدارة الحملات الانتخابية؟ الإجابة على هذا السؤال تحدد من وجهة نظرى مدى صواب الكثير من التحليلات والآراء التى انهمرت علينا أخيرا دون سند.
نعم لقد فاز بعض أعضاء كانوا منتمين للوطنى المنحل، وغالبيتهم لم يكونوا من رموزه الفاعلة أو مستوياته القيادية، ومشاركتهم فى الانتخابات لم تكن على قوة حزب واحد بل توزع بعضهم على عدة أحزاب كل منها فاز بنصيب من مقاعد البرلمان ومن ثم فهم أعضاء فى أحزاب جديدة وليسوا فى الوطنى المنحل، كما كان البعض منهم فى قوائم انتخابية تشكلت وفى ذهن أصحابها أن تتضمن القائمة رموزا سياسية ذات شعبية ولا تشوبها شائبة، ومعظم القوائم تقريبا ربطت نفسها بالثورتين معا. والبعض الثالث رشح نفسه مستقلا وفردا وليس حزبيا استنادا إلى خبرته ومكانته بين أبناء دائرته. وهكذا فإن القول بأن وجود هؤلاء بمثل هذه التشكيلة يعنى عودة الحزب المنحل أو تراجعا للوراء يُعد استخفافا بحق الناخب فى اختيار من يريد فى انتخابات اتسمت بالنزاهة والحيادية التامة من الأجهزة الرسمية، كما يقدم رؤية مشوهة وبعيدة عن الحقائق الماثلة أمام أعيننا جميعا.
لقد مضى زمن الحزب الوطنى إلى غير رجعة، مضى كهيكلية حزبية امتزجت جسدا وروحا بأجهزة الدولة، ولم يُعد من الممكن أن تعود هذه الصيغة مرة أخرى لأسباب شتي. ومضى إلى غير رجعة نظرا لأنه لم يكن حزبا بالمعنى المُتعارف عليه فى النظم الديمقراطية، فلم يكن يمثل شريحة اجتماعية بعينها تمتد بطول وعرض الوطن، ويسعى من خلال الوصول إلى السلطةعبر البرلمان والحكومة معا إلى تحقيق مصالحها المختلفة، وكان خليطا من اتجاهات سياسية مختلفة منها الليبرالى واليسارى والاسلامى والقومي، ومنها الإصلاحى ومنها التكنوقراط والخبراء، ومنها أيضا المتعالى ومنها الباحث عن مصلحته الخاصة أو الراغب فى الارتباط بالسلطة العليا بأى شكل كان. وأذكر هنا أنه اثناء رئاستى لتحرير «التقرير الاستراتيجى العربي» فى الفترة من 2000 وحتى 2007، والذى يصدره مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام تم نشر أكثر من تقرير ودراسة عن أداء الحزب وعن مشكلاته، وفى التقرير الخاص بالعام 2005/ 2006، وفى رصد المشهد الانتخابى والحزبى آنذاك، تضمن تحليلا للتوجهات الداخلية فى الحزب الوطنى الحاكم آنذاك، وكيف أنها لا تعبر عن حزب متماسك فكريا وأيديولوجيا، وإنما عن مجرد مظلة لتيارات سياسية مختلفة، وطالب التقرير بأن ينقسم الحزب الوطنى إلى حزبين أو ثلاثة كل منها يعبر عن تيار فكرى متجانس سياسيا واجتماعيا، وأن ذلك قد يكون مدخلا مهما لتطوير الحياة السياسية المصرية بشكل عام، وأن يخلق منافسة حقيقية. والفكرة الرئيسية هنا أن الحزب الوطنى حتى وهو فى لحظات قوته ونفوذه لم يكن يعبر عن مفهوم الحزب السياسى فى النظم الديمقراطية، ولم يكن مُمثلا لشريحة اجتماعية بعينها لديها رؤية سياسية واقتصادية متجانسة، والأهم من كل ذلك أن الحزب لم تكن لديه رؤية متكاملة للمستقبل من منظور اجتماعى وسياسى متجانس. وكثير من وثائقه كانت أقرب الى برامج عمل حكومية مرتبطة باحتياجات وضغوط اللحظة الزمنية فقط. وبالتالى كيف لسبعين أو حتى مائة من أعضائه السابقين أن يشكلوا تيارا فاعلا يُعيد البلاد إلى الوراء مرة أخرى بعد كل هذه التحولات الكبرى التى مر بها المصريون، وكيف يمكن تصور ذلك وهؤلاء المائة زادوا أم تقلصوا موزعون على أحزاب جديدة وقديمة وقوائم متنافسة ومجرد أفراد لا يحملون أى برامج للحاضر أو للمستقبل. وحتى فى حالة رمزية عودة لأعضاء من حزب منحل لمؤسسة البرلمان، فتظل رمزية باهتة، لأن أيا من هؤلاء لا يمكنه أن يُطالب أو حتى يُلمح للعودة إلى زمن قُضى عليه قضاء مبرما.
والشئ بالشئ يُذكر، هل يمكن لنتائج الانتخابات بحلوها ومرها، ولاسيما وجود فائزين ينتمون إلى أحزاب أن تدفعنا إلى تصديق أن لدينا أحزابا حقيقية باتت تشكل آلية لضبط الأداء السياسى الكلى فى المجتمع؟ بالطبع نأمل أن تكون لدينا مجموعة من الأحزاب الفاعلة فى حدود أربعة أو خمسة على الأكثر، ولكن بالشروط والسمات التى تعرفها النظم الديمقراطية، وأن يكون لكل حزب شريحة اجتماعية منتشرة من الاسكندرية شمالا إلى أسوان جنوبا، ومن البحر الأحمر شرقا حتى الواحات غربا، تؤمن بأفكاره وترى فيها خلاصها وطموحها، وتؤيد ممثليه فى الانتخابات عن قناعة خالصة ووعى تام، وتتابع أداءه فى البرلمان وتُقيّم التزامه بما قدمه من أفكار ورؤي. وإلى حين نصل إلى هذه المرحلة سيظل لدينا مجموعة من الأحزاب طور التشكل، بعضها له ممثلوه داخل البرلمان، والبعض الآخر يندب حظه لأنه خارج اللعبة السياسية. والأهم أن داخل هذه الأحزاب عناصر انتمت يوما ما إلى حزب كان حاكما ولن يعود إلى الحياة مرة أخري.
إن إدراك الحقائق كما هى دون تشويه يُعد المدخل الحقيقى والوحيد لإثراء الوعى المجتمعي، وغير ذلك يعنى أننا مُصرون على أن نعيش فى حالة من التيه والتزييف. لقد اعتاد البعض لكى يلفت الأنظار إليه أن يبالغ فى القول، وأن يشطط فى الفكرة، وأن يصرخ حيث يتطلب الأمر الهدوء والرصانة. ومن ثم تكون النتيجة أن يزداد الغموض والارتباك لدى المواطن البسيط الذى ليس لديه إمكانية الغوص وراء كل ما يسمعه أو يشاهده. ولهؤلاء بل وللجميع نقول رفقا بمصر والمصريين. نقلا عن الأهرام