المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. نصر محمد عارف
د. نصر محمد عارف

تدين ضد الدين: نصرة الدين بمخالفته

الإثنين 02/نوفمبر/2015 - 11:23 ص

يُفَرِّق عبدالقاهر الجرجانى المتوفى 1078م فى كتابه «التعريفات» بين الدين والملة والمذهب؛ حيث يقول «الفرق بين الدين والملة والمذهب: أن الدين منسوب الى الله تعالي، والملة منسوبة الى الرسول، والمذهب منسوب الى المجتهد» ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن التدين منسوب الى الانسان فى علاقته بالمذهب والملة والدين.

وقد بقى الدين نقيا غضا طريا كما نزل من السماء محفوظاً فى القرآن الكريم، وتعددت قراءات الملة وتنوعت بتعدد روايات الحديث وأخبار النبى الكريم صلى الله عليه وسلمة وعندما نأتى الى المذهب نجده قد صار مذاهب متنوعةً متعددةً يتجاوز الصحيح منها الثمانين مذهباً، وكل مذهب تراكمت الاجتهادات فيه بتراكم الدهور، وتنوع البيئات وتعدد الثقافات حتى صارت الثروة الفقهية تُعد بملايين الأحكام والفتاوى والأراء.

وأمام هذا يقف الانسان باحثا عن طريق يسلكه ليصل الى مقصد الدين؛ وهو رضاء رب العالمين؛ الذى يعنى سلوك الطريق المستقيم، وتحقيق الطمأنينة والسلام فى الدنيا للوصول الى دار السلام فى الآخرة، وهذا هو ما تعرِّفه العلوم الاجتماعية المعاصرة بالتدين، أى اتباع الدين من قبل الانسان، وهذا التدين يحتاج الى منظومة قيم على رأسها الاخلاص والتقوى والورع، ويحتاج الى سلوكيات معينه، مع تأكيد أولوية القيم على السلوكيات، أى أن ما وَقَرَ فى القلب أسبق وأهم مما سينعكس فى العمل.

وقد شهد التدين فى عصرنا حالة من الارتباك الكبير، فقد تداخلت القيم مع السلوكيات، وانقلبت العلاقة بينهما، وتشابكت العلاقة بين الوسائل والغايات؛ فصارت الوسائل غايات والغايات وسائل، وأصبح تدين البعض هو مصدر الدين للأخرين، بل صار أهم من الدين ذاته، وأصبح الانسان يتدين بالتقليد الأعمى لمن يرى أنه متدين، لذلك أصبح التدين - الذى هو انعكاس للدين فى نفس الانسان - هو الدين نفسه، وأهم من الدين ذاته، وتطور الأمر حتى صار التدين ضد الدين ويناقضه ويخالفه.

وحيث إن هذه ادعاءات خطيرة، نقول إن التدين قد صار عدوا للدين وضده؛ فلابد من تقديم الحجة والدليل العملي، وليس الاعتماد فقط على البرهان العقلي، وسنقدم الدليل من خلال مشاهد حياتية نعيشها جميعاً:

المشهد الأول: التدافع فى شعائر الحج جميعها تدافع ينم عن عدم رحمة وعدم حب لأخوة الايمان، فى مكان وزمان نهى الله سبحانه فيه عن الجدال، وليس الركل بالأرجل والأيدي، وعدم الرحمة بالمرأة والمريض والضعيف؛ كل هذا من أجل انهاء الشعائر بسرعة والتخلص منها ثم تأتى كارثة الكوارث، وهى دهس الناس تحت الأقدام من أجل رمى الجمرات التى هى شعيرة هامشية يمكن أن ينيب الانسان من يقوم بها مكانه. الحج الذى هو فرض على من استطاع اليه سبيلا، أى أنه فرض على نسبة ضئيلة من المسلمين، حيث يموت أكثر من تسعين فى المائة منهم دون أدائه هذه الشعيرة حولها التدين المشوه الى قيمة عليا أهم من حياة الانسان التى هى فى الدين أعلى القيم.

المشهد الثاني: مجتمع تزداد فيه نسبة من يبالغون فى اظهار علامة الصلاة على جباههم، ومن يطلقون لحاهم، ويقصِّرون ثيابهم، ويصبح معظم نسائه محجبات، ورغم ذلك ينتشر فيه ارتكاب الفواحش مع المحارم وغير المحارم، والسرقة والقتل والخيانة، والرشوة والغش والخداع .. الخ، وتقل فيه الى حد غير مسبوق قيم الرحمة والتراحم والعطف والصدق والأمانة والنظافة..الخ.مجتمع كهذا تسوده ظاهرة تدين هى فى مجملها ضد الدين، وكأن التمسك بتلك المظاهر هو نصرة شكلية للدين، وفى الجوهر هدم لكل قواعد الدين وقيمه.

المشهد الثالث: حركات سياسية تزعم أنها نذرت نفسها لنصرة الدين، واعادة الأمجاد التاريخية التى ارتبطت به، وأن غاية جهدها تربية أجيال على قيم الدين لتكون هى الأجيال الربانية التى سوف تحتل موقع أستاذية العالم، هذه الحركة ما أن برقت لآلئ السلطة والنفوذ أمام أعين قادتها وأعضائها الا وتحولوا الى مخلوقات أخرى تدعى نصرة الدين من خلال ارتكاب كل ما يخالف الدين، وعدت فأخلفت، وحدثت فكذبت، وتولت السلطة فاستبدت، خانت الشركاء والحلفاء، وغدرت بكل من ظنت قيادتُها أنه يقف حجر عثرة فى طريق سلطانها الدنيوي، ارتكبت كل الموبقات بما فيها قتل الأتباع قبل الخصوم للمزايدة بالدماء فى بورصة السياسة الدولية. وبعد أن فقدت السلطة أصبحت تنصر الدين بالسباب والشتائم والطعن فى الأعراض، واستباحة حرمات الناس، وتحولت الى نموذج للبذاءة المقززة التى تأنف نفس أى انسان عادى عن ترديد ما يقوله القادة والأتباع كل ذلك من أجل نصر الدين بارتكاب كل ما يخالف الدين.

المشهد الرابع: من رفعوا راية رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم؛ الذى نهى عن قطع شجرة فى وقت الحرب، أو ترهيب شيخ، أو تعكير صفو راهب فى صومعته، أو قتل من لا يحمل السلاح من جيش العدو، أو قتل من يحمل السلاح وهو فى حالة الانسحاب، هذا الرسول الكريم الذى أرسله الله رحمة للعالمين يرفع رايته، ويدعى خلافته من خالفه فى كل حرف قاله، وفى كل فعل فعله، وفى كل قيمة أمر بها، فصارت راية رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم تُرفع فوق رؤوس أبرياء لا يحملون سلاحا، وليسوا فى أى جيش معاد لهم، وتُرفع كذلك فوق رؤوس الحرائر من أهل الكتاب من بنات العذراء مريم ابنة عمران وهى تباع فى سوق النخاسة لمهووسين بالشهوة البهيمية، مسكونين بكل العقد النفسية.

 

هذه مجرد نماذج لمشاهد يكون فيها التدين ضد الدين، بل أحياناً يهدم قواعد الدين من جذورها، ويستطيع أى انسان أن يرصد أضعاف ذلك من مشاهد التدين المناقض للدين؛ الذى هو عكس الدين؛ خصوصاً لدى اخواننا فى العراق من الفئة الغالبة الآن، واذا ذهبنا الى مجتمعات اسلامية أخرى فسنرى عجبا من نماذج تدين تعاكس الدين الذى تدعى اتباعه وتهدم أركانه، على الرغم من أنها تدعى السير على نهجه ونصرته.

التدين المعاصر للأسف ابتعد كثيرا عن الدينة فمن يعيده اليه قبل أن يظهر دين شعبوى جديد لا علاقة له بالدين. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟