ليس قلق الأميركيين من أفول قوة بلادهم من بنات اليوم. فالآباء المؤسسون شغلهم القلق من أن تلقى دولتهم مصير الجمهورية الرومانية القديمة. وموجة القلق دورية. ففي الخمسينات، إثر إطلاق السوفيات سبوتنيك، عمّ شعور بأن الولايات المتحدة تخسر السباق أمام الاتحاد السوفياتي. وفي الثمانينات، كانت اليابان ونموذجها الاقتصادي المتفوق مدار القلق الأميركي. واليوم، يغلب انطباع بأن كفة الصين بدأت ترجح على كفة أميركا.
وتشير عبارة القرن الأميركي إلى مرحلة بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، حين أدت أميركا دوراً راجحاً في إرساء توازن القوى العالمي. ولكن العبارة لم يقصد بها هيمنة أميركية أو قدرة على الهيمنة والسيطرة على العالم. ففي ذروة نفوذهم، لم يسعِ الأميركيين الحؤول دون اجتياح (الدبابات السوفياتية) هنغاريا (المجر) في 1956.
والأفول نوعان، الأفول المطلق أو الشامل هو صنو أفول روما القديمة التي انهارت على وقع حروب داخلية واقتصاد من غير إنتاجية. ولا أرى أن أميركا تواجه مثل هذا الأفول. فهي متقدمة في قطاع التكنولوجيا والتعليم وبراءات الاختراع... ولكن هل يلم بأميركا أفول نسبي؟ وهل ثمة بلد في حال أفضل منها؟ فقدرات اوروبا لا يستخف بها، ولكنها تفتقر إلى الوحدة. وروسيا في مرحلة أفول، إثر مبالغتها في الاعتماد على عائدات القطاع النفطي وإخفاق الإصلاح الاقتصادي نتيجة فشو الفساد. والهند والبرازيل في قبضة الفقر.
القوة العسكرية الصينية
وثمة مبالغة في تقدير قدرات الصين. فالنفقات العسكرية الأميركية 4 أضعاف النفقات العسكرية الصينية. وعلى رغم أن الصين رفعت موازنتها العسكرية أكثر من 10 في المئة سنوياً في العقد الأخير، إلا أنها لم تلحق بركاب أميركا بعد. ولا تملك غير حاملة طائرات يتيمة. وإعلان الرئيس الصيني، شي جينبينغ، تقليص عديد الجيش الصيني 300 ألف جندي، يشي بأن الجيش ضخم العدد ولكنه يفتقر إلى الفاعلية. وعلى رغم أن الصين تسعى إلى تعزيز وزن سياساتها «الناعمة» (أي القدرة على الاستمالة (الحلفاء) والردع من غير قوة عسكرية)، تسلط دراسات الضوء على مكامن ضعف. فالخلافات الحدودية بين بكين ودول مثل الهند واليابان وفيتنام كبيرة. ويتعذر توسل الصين بسياسة ناعمة إلى نشر النفوذ، في وقت تبث الرعب في أوصال جيرانها. والنظام الصيني مستبد يمسك بمقاليد المجتمع. ووسائل السياسة الناعمة في يده طبعاً ومصدرها ليس المجتمع المدني، على ما هي الحال في الولايات المتحدة. فسند النفوذ الناعم الأميركي هو الجامعات والمؤسسات الخاصة وهوليوود. وسجنت سلطات بكين الفنان اي وي وي، ومنعت ليو جياوبو من المشاركة في حفل منحه جائزة نوبل للسلام. فابتعدت عنها أوروبا واستراليا. ولن يجدي نفعاً إنشاء مركز كونفوشيوسي في مانيلا، العاصمة الفيليبينية، يتولى نشر الثقافة الصينية، في وقت تطرد البحرية الصينية سفن الصيد الفيليبينية من جوار جزر سبراتلي المتنازع عليها بين البلدين.
ولا شك في أن الصين أبلت بلاء حسناً، حين انتشلت الملايين من براثن الفقر المدقع، وارتقت إلى مصاف الاقتصاد الثاني في العالم. ويتوقع بعض المراقبين أن يتجاوز اقتصادها نظيره الأميركي في 2030، إذا بقيت معدلات النمو 7 في المئة سنوياً. ولكنّ كثراً يرون أن تفوق الاقتصاد الصيني على الأميركي سيتأخر إلى 2040 أو 2050 نتيجة انخفاض معدلات النمو إلى 3 أو 4 في المئة. ولو ارتقت الصين إلى أكبر اقتصاد في العالم، فلن تكون صاحبة أكثر الاقتصادات تطوراً. فالناتج الفردي منخفض. وهذا الناتج هو مرآة تطور الاقتصاد وتنوعه. و46 شركة من 500 شركة متعددة الجنسية، هي أميركية، وهذه حال 19 من 25 من أكبر شركات الماركات العالمية. والتفوق على أميركا يقتضي نجاح الصين في التحول من نموذج نمو، ركنه استيراد التكنولوجيا إلى تطوير التكنولوجيا وتصديرها. وخلاصة القول، إننا لم نبلغ بَعد مرحلة ما بعد أميركا.
ولا ريب في أن الصين ستنافس أميركا في بعض المجالات، وتفرض قيوداً، على سبيل المثل، على حرية الملاحة في بحر الصين. ولكن مصلحتها تدعوها إلى التعاون مع أميركا في مجال التغير المناخي والإرهاب السيبرنيطيقي. والصين ليست مصدر خطر وجودي يجر الولايات المتحدة إلى نزاع، على ما كانت ألمانيا الهتلرية أو الاتحاد السوفياتي الستاليني. ولن تندلع بينهما حرب باردة قوامها التنافس. وركن مشروعية الحزب الشيوعي الصيني هو النمو الاقتصادي. وإذا تراجع النمو، يتوقع أن تنفخ بكين في المشاعر القومية. فتندلع نزاعات محدودة.
والأغلب على الظن أن الولايات المتحدة هي الدولة الكبيرة الوحيدة التي لن تعرف تراجعاً سكانياً. ويعود الفضل في نموها السكاني إلى الهجرة. والثقافة الأميركية تحفز الابتكار والتجديد. والنظام الجامعي الأميركي جيد، ويشتمل على 15 جامعة من أحسن الجامعات في العالم. وأميركا صارت مستقلة في مجال الطاقة. وقبل عشرين عاماً، حسب المراقبون أن اعتماد أميركا على النفط الخارجي سيتعاظم، ولكن اليوم يتوقع أن تبلغ مرحلة الاستقلال النفطي في 2020، نتيجة استخراج الغاز الصخري. وحصة الاقتصاد الأميركي من الاقتصاد الدولي ستتراجع في السنوات المقبلة من 22 في المئة في العام ألفين إلى 17 أو 18 في المئة. وهذا التراجع يشير إلى زيادة حصة دول أخرى مثل البرازيل من الاقتصاد العالمي. واليوم، يبرز لاعبون لا يلتزمون القوانين الدولية مثل القراصنة الرقميين والمجموعات الإرهابية. وقدرتهم على التخريب كبيرة بسبب ثورة المعلومات.
السياسة الخارجية
وفي السياسة الخارجية، تتجاذب الولايات المتحدة مرحلتا التقوقع أو الانكماش ومرحلة الانتشار، على ما كانت الحال في عهد جورج بوش. ولا أرى في سياسة التقوقع انعزالية أو ضعفاً. فالحذر يملي الانكماش. والقوة حين تمر في مرحلة أفول هي مصدر خطر. وهذه حال روسيا اليوم. وفرض العقوبات عليها يقيد هذا الخطر. وأعتقد أن الولايات المتحدة لن تترك عرش القوة المهيمنة والوازنة قبل 2040 أو 2050. وحري بها تطوير سياسات تعاون مع دول أخرى وإرساء شبكات لمعالجة شؤون عابرة للدول مثل الإرهاب والاستقرار المالي والتغيرات المناخية. نقلا عن الحياة
* خبير في الشؤون الدولية، عن «لوبوان» الفرنسية، 29/10/2015، إعداد م. ن