نشرت «الخليج» في الخامس والعشرين من الشهر الماضي مقالاً عنوانه «خريطة كيسنجر لخروج الشرق الأوسط من الانهيارات»، ترجمة لمقال في «وول ستريت جورنال». وفيه يقرر أن «الفضاء الجيوسياسي في الشرق الأوسط تشكل عقب تخلي مصر عن علاقاتها العسكرية مع الاتحاد السوفييتي، وانضمامها للعملية التفاوضية تحت رعاية الولايات المتحدة»، وتوقيعها اتفاقية الصلح مع «إسرائيل». ويذهب إلى أن الشرق الأوسط يعيش حالة من الفوضى، وأن كلاً من ليبيا واليمن والعراق وسوريا فقدت سيادتها على أرضها بشكل كامل.
وأن أقطار الشرق الأوسط تعيش صراعات عرقية ودينية وتواجه ضغوطاً داخلية، وأن هناك كتلتين متصارعتين في المنطقة: الأولى سُنية تضم مصر والأردن ودول الخليج متحالفة مع الولايات المتحدة، والثانية شيعية بقيادة إيران.
كما أنه ينبه إلى خطر «داعش» الساعي إلى استبدال الدول المتعددة بدولة الخلافة التي تحكم بالشريعة الإسلامية.
ولا أحسبه يجهل أن «داعش» وبقية الجماعات التكفيرية لا تمثل الإسلام باستنارته وانفتاحه على الآخر، وإنما تنطق بالقراءات الأكثر تشدداً وانغلاقاً.
كما ينتهي بالنسبة لسوريا إلى القول «بعد استعادة الأراضي التي يسيطر عليها الإرهابيون يمكن بناء نظام اتحادي بين العلويين والمناطق السُنية، وفي هذا يمكن وجود دور للأسد، ما يقلل من مخاطر حدوث فوضى أو إبادة جماعية».
وإذ يتجاهل كيسنجر الهوية العربية والانتماء القومي لشعوب المشرق العربي، فهو إنما يعيد إنتاج بعض ما غلب على أدبيات المستشرقين منذ مطلع القرن الثامن عشر بالتعاطي مع الوطن العربي؛ وكأنه مجرد فضاء جغرافي بلا هوية قومية تميزه، وإنمّا هو في رؤية أغلبيتهم لوحة فسيفسائية من أعراق وأديان ومذاهب شتى، في تنكر متعمد لتاريخ العرب ومعطيات واقعهم السياسي والاجتماعي والثقافي.
في حين أن الأمة العربية تمتلك كل مقومات الانتماء القومي المتعارف عليها في الفكر السياسي الحديث، وأن المجتمع في كل الأقطار العربية عالي نسبة التجانس والاندماج على محاور السلالة التاريخية، واللغة والثقافة، والدين والمذهب.
والذي أوضحته الدراسات العلمية الموثقة أن العرب لغة وثقافة وأنماط سلوك يبلغون 88% على الصعيد القومي، وما لا يقل عن 60% في أي قطر عربي، فيما يجاوز المسلمون 91% على الصعيد القومي 84 % سُنة و7% شيعة.
وحين تقرأ الصراعات القطرية العربية منذ بداية القرن العشرين يتضح تماماً أنه لم يكن بينها صراع ديني أو طائفي أو مذهبي.
وحين أقامت فرنسا في سوريا سنة 1920 أربع دويلات طائفية ثار الشعب العربي في سوريا، وكان الأبرز دلالة ثورة سلطان باشا الأطرش في جبل العرب «الدروز» والشيخ صالح العلي في جبال العلويين. ولم يعرف العراق المحاصصة العرقية والطائفية إلّا بعد الغزو الأمريكي سنة 2003، وبقرار بول بريمر، وقبول من جاؤوا على ظهور الدبابات الأمريكية.
أليست الإدارة الأمريكية هي المسؤولة عن الفوضى في العراق، وإنها أسست لإفقاده السيادة الكاملة على ترابه الوطني، بحلها جيشه الوطني ومؤسسات دولته.
وبعد اثنتي عشرة سنة من غزو العراق اعترف توني بلير، شريك جورج بوش الابن في العدوان على العراق، الدولة والشعب، أن الغزو الدولي بقيادته الأمريكية هو الذي أسس لقيام «داعش» في بلاد الرافدين.
والذي يتناساه كيسنجر أن السادات حين تفرد بصناعة قرار مصر كان يحلم بمشروع مارشال تديره الولايات المتحدة، كما يذكر هيكل في خريف الغضب، بحيث لم يسع لتطوير اقتصاد بلاده التي كانت حينها متقدمة على ماليزيا وبقية النمور الآسيوية، وإنما بسياسة «الانفتاح» التي اعتمدها حوّل «الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية»، كما وثق ذلك الراحل عادل حسين في موسوعته. وبتدمير قدراتها الإنتاجية غدت مصر دولة وظيفية تابعة. القرار السياسي لنظامها الحاكم رهينة للبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والدول مانحة «المعونات»، في ردة كاملة عن إنجازات ثورة 23 يوليو 1952، والمرحلة الناصرية.
وبذلك افتقدت مصر دورها القومي التقدمي، وبالتبعية قدرة صانع قرارها على ضبط الصراعات والنزاعات العربية والحيلولة دون تداعياتها الخطرة.
وهو الدور الذي لعبته بكفاءة بقيادة عبدالناصر، بداية من تصديه الفاعل لعبدالكريم قاسم حين أعلن ضم الكويت سنة 1962.
كما أنه لجم نزاع القوى الانعزالية اللبنانية مع فصائل المقاومة الفلسطينية، بإبرام «اتفاقية القاهرة» سنة 1969 بين قائد الجيش العميد إميل البستاني وبين ياسر عرفات، وهي الاتفاقية التي نظمت الوجود الفلسطيني في لبنان، وشرعت ممارسة المقاومة ضد «إسرائيل» من منطقة العرقوب.
وأخيراً دعا لعقد القمة العربية في سبتمبر/أيلول 1970 التي نجحت بوقف الصدام الدامي بين الجيش العربي الأردني والفصائل الفلسطينية، ولقد دفعت مصر وأمتها العربية غالياً نتيجة افتقادها دورها القومي التقدمي.
ومما يذكر أنه أثناء زيارة مناحم بيغن للسادات أغارت الطائرات «الإسرائيلية» على المفاعل الذري العراقي ودمرته.
وفي زمن السادات تفجرت الحرب الأهلية في لبنان ربيع عام 1975 وامتدت خمسة عشر عاماً، وبدلاً من أن يحاول النظام المصري التصدي للصراع المدمر للقطر الشقيقدعم ميليشيات الانعزاليين.
فيما كان الرئيس حسني مبارك على علم مسبق بغزو شارون للبنان سنة 1982، وبدلاً من أن يحاول منع ذلك طالب عرفات بتسليم سلاح المقاومة للجيش اللبناني، لعل ذلك يحول دون الغزو.
والثابت أنه منذ أقام أحمد بن طولون دولته في مصر سنة 865 م لعبت دور «الإقليم القاعدة» العربي على حد تعبير المفكر القومي د. نديم البيطار.
وحين يُقرأ تاريخ مصر وتفاعلها مع محيطها العربي على مدى الألف ومئة وخمسين سنة التالية، يتضح أن مصر كلما قويت وطنياً تفاعل نظامها مع بلاد الشام، وشكل محور التصدي البطولي للغزاة الأجانب، كما جرى في مواجهة غزو الفرنجة «الحروب الصليبية» وغزوات المغول والتتار، وكلما ضعفت وانكفأت داخل حدودها القطرية؛ تشرذم المشرق العربي، وسادت فيه الصراعات اللامجدية، ثم ارتد الوهن على مصر.
وهذا هو سر الفوضى والصراعات التي سادت المشرق العربي، منذ ردة السادات، وتحولها للدوران في الفلك الأمريكي، الأمر الذي لعب كيسنجر دوراً محورياً في تكريسه، وليس غير استعادة مصر قدراتها الإنتاجية ودورها القومي التحرري، ما يضع النهاية الحاسمة لمفاعيل «الفوضى الخلاقة» التي دعت إليها كونداليزا رايس سنة 2006. نقلا عن الخليج