أفضى الكابوس الذي شهدته باريس إلى جلاء صورة أن الإنسانية تواجه قوة مرعبة ليس في الإمكان الكلام عن مفاوضتها أو مهادنتها. ولذا، يجب القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» المحظور في روسيا. وأمام هذا الخطر المشترك، على الدول أن تستمع إلى صوت العقل وأن تنسى خلافاتها ومخاوفها. وحري بروسيا أن تدرك أن الأميركيين لن يرسلوا انتحاريين إلى مترو موسكو على خلاف الإرهابيين الإسلاميين الذين سيقدموا على ذلك من غير صعوبات.
ورفعت الضربات الأخيرة التي نفذها «داعش» في بغداد، بيروت، باريس وفي الجو فوق سيناء، لواء «الانتقام لسورية!». وعلى رغم أن القصف الفرنسي لم يلحق ضرراً كبيراً بالجهاديين، نالت فرنسا نصيبها من ضربات «داعش». وهذا التنظيم يسعى إلى الاقتصاص من كل من يجرؤ على رفع يده ضد الخلافة. وتحتل روسيا عند هؤلاء مرتبة العدو الأول بسبب الضربات الروسية. والدمار متفش في سورية. واجتمع عليها الجميع، و»داعش» يسرح فيها ويمرح. لذا، انشغلت الديبلوماسية الدولية بالقضية السورية. ولا يختلف اثنان على ضرورة توحيد جهود الراغبين في القضاء على الجهاديين. والجميع مهتم، بدءاً بدول الجوار - إيران، تركيا، الأردن، المملكة العربية السعودية، مصر (ناهيك عن سورية والعراق ضحايا الإرهاب الإسلامي) – وصولاً إلى روسيا والولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ولكن لماذا يبدو أن فكرة التسوية في سورية ستلقى مصير «خطة أنان» التي علقت موسكو آمالها عليها؟ والجواب واحد: مصير بشّار الأسد. ولسان حال موسكو هو «نحن لا نتمسك بالأسد، نريد فحسب أن يختار الشعب السوري قيادته في انتخابات حرة. والأسد، إلى حين إجراء مثل هذه الانتخابات، هو الرئيس القانوني الشرعي. هذه الذريعة خبيثة وغير مقنعة. فمشروعية الأسد مشكوك فيها. ولا يخفى أنه لم يصبح رئيساً بجدارته، ولم يبلغ كرسي الرئاسة بسبب الاحترام والتأييد الشعبيين، بل لأنه نجل الرئيس السابق الذي هو نفسه بلغ السلطة بانقلاب.
والسؤال البارز هو: أين في المتناول إجراء الانتخابات؟ أفي المناطق التي تسيطر عليها الحكومة؟ ومساحتها تبلغ، على أقصى تقدير، ربع الأراضي السورية. وما شكل انتخابات كهذه؟ وهل من المفترض الانتظار سنة ونصف إلى أن يحرر الجيش النظامي كل سورية ويهزم جميع أعدائه من «داعش» إلى «جبهة النصرة» و»أحرار الشام» و»الجيش السوري الحر»؟ من العسير تصديق هذا الاحتمال. وطوال أربع سنوات، لم يتمكن الجيش النظامي، وفي جعبته معدات روسية عالية الجودة، من هزيمة من يسميهم الأسد الإرهابيين والمجرمين والمرتزقة، وهؤلاء يحملون أسلحة خفيفة فحسب. وظهر الجهاديون المتشددون قبل عامين فقط. وطوال عامين، كانت قوات النظام تقاتل الجيش السوري الحر، وهو مؤتلف من العسكريين الذين فروا إلى تركيا والمعارضين الفارين من جماعات إسلامية وعلمانية ومعتدلة («الإخوان المسلمون»). وعلى رغم أن هذه الجماعات، لم تتوحد تحت راية قيادة واحدة ولم تملك أسلحة ثقيلة، تمكنت من الصمود لا بل سيطرت على عدد من المدن. وحين برز تنظيم «القاعدة» كانت هذه الجماعات تقاتل في ضواحي دمشق، وفي وسط حلب. وخلاصة القول إن الجيش النظامي ليس على ما يرام. وليس ثمة ما يسوغ حسبان أن الدعم الجوي الروسي سيتيح للقوات النظامية تحرير سورية واجتراح أعجوبة. ولو حصلت معجزة، وعادت سورية إلى سلطة النظام، فمن الذي سيصوت؟ فملايين السوريين فروا إلى تركيا ولبنان والأردن، واليوم يقصدون أوروبا. وهل هؤلاء مواطنون من الدرجة الثانية لا يحق لهم الاقتراع؟ ومن الذي يسعه أن ينظم انتخابات في بلد نصفه مدمر، ومن الذي سيترشح للانتخابات؟ الأسد يصر على المشاركة، ولا شك في أنه سيحصد ما لا يقل عن 90 في المئة من الأصوات في مناطق سيطرة النظام. هذه النسبة هي نتاج الحكم البعثي المستبد والاستخباراتي والشمولي. والسؤال الأهم هو: كيف يعقل أن تقبل «المعارضة المعتدلة» – التي ثارت في 2011 على النظام - بهذه المسرحية؟ وليس ثمة معارض واحد موافق على بقاء الأسد في القمة. وأخيراً، إذا حصلت معجزة واتفق وزراء خارجية الدول الكبرى على مسألة ما، لا يتوقع أن يقبل الذين يقاتلون في سورية منذ أربع سنوات، وسفكت دماؤهم، ودفن رفاقهم، برمي السلاح، كما يطالب الأسد. ولن يطلبوا المغفرة ويعيشوا من جديد في ظل السلطة نفسها. لكن ما العمل؟ ضمان سلامة الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة، وبناء جدار حديدي لحماية دمشق واللاذقية، وإنقاذ العلويين من الإبادة. هذه مسألة شرف بالنسبة لبوتين، وستكون خدمة تاريخية يقدمها للعلويين. ومقابل هذه الحماية، يُطلب من الأسد أن يجد بديلاً (ولو من بيئته العلوية)، وأن يوافق على الرحيل في مسعى لإنقاذ الأمة. سيقول المراقبون إن هذا الحل اعتراف بتقسيم سورية! ولكن هذا القول في غير محله. و(هذا الحل) هو فرصة سانحة أمام انضواء المعارضة المعتدلة في جبهة موحدة ضد «داعش»، وربما إنشاء ائتلاف يمتد من البعثيين إلى «أحرار الشام». وفي المستقبل، قد ترسى نسخة جديدة من النظام السياسي. وعلى سبيل المثال، في الإمكان التزام النموذج الطائفي اللبناني (الرئيس - مسيحي، رئيس الوزراء - سني، ورئيس البرلمان - شيعي، الخ.). هذه الاقتراحات لا تقل واقعية عن تلك التي تناقش اليوم بين وزراء القوى الكبرى. نقلا عن الحياة
* محلل سياسي، عن «نــــيزافيـــسيمايا غازيتا» الروسية، 16/11/2015،
إعداد علي شرف الدين