عندما تتعرض أى دولة لأزمة ما داخلية أو خارجية فإنها عادة ما تتوقف ليس فقط لدراستها ومعرفة أوجه الخلل التى تسببت فيها، وإنما أيضا وبالضرورة لإعادة ترتيب أولوياتها. فكل دولة تطمح لأن تحقق النهضة والتقدم لمجتمعها وأن تحتل مكانة أرفع بين الأمم، ولكن إذا كان هذا الطموح هو عامل مشترك بين الجميع، إلا أن طرق الوصول اليه تختلف من حالة الى أخرى وفق الظروف التى تمر بها الدول ودرجة النمو الذى تحققه, وهو أمر متفاوت بحكم التعريف. ولا شك أن مصر كغيرها تشهد كثيرا من الأزمات ولكننا نتوقف هنا عند الداخل وتحديدا الأزمة فى المرافق والخدمات العامة, والتى لم تكن صور الاسكندرية - وكانت من أجمل مدن المتوسط - وهى غارقة فى المياه من جراء السيول سوى أحد مظاهرها الصارخة الدالة على مدى التدهور الذى أصاب هذا القطاع, والذى على الرغم من خطورته وأهميته القصوى مازال، للمفارقة - لا يحظى بالاهتمام الكافى الذى يستحقه فى سلم الأولويات. إذ ينظر اليه البعض على أنه من القضايا الثانوية مقارنة بالقضايا الكبرى والمشاريع العملاقة التى تستأهل من وجهة النظر هذه - التنظير والأولوية وإصباغ صفة الاستراتيجية عليها والتى قد تعنى التخطيط للعشرين أو الثلاثين عاما القادمة, وهو ما يُطلق عليه إجمالا التفكير من خارج الصندوق, أى بصورة مبتكرة بعيدة عن الأسلوب النمطى، ومن أمثلتها تنمية محور قناة السويس والعاصمة الادارية الجديدة وزراعة المليون ونصف المليون فدان فى الصحراء وتطوير الساحل الشمالى وبناء مدينة علمية ضخمة وغيرها من مشاريع مشابهة، وهو أمر لاخلاف على أهميته لإحداث انطلاقة نحو المستقبل، ولكن إذا كان الواقع المعاش يُلح على متطلبات مختلفة ضرورية وعاجلة، فلابد من النظر اليها بجدية بل وإعطائها أولوية على ما عداها فى الوقت الحاضر لأنه ببساطة لن تتحقق تلك الانطلاقة مالم تحدث نقلة نوعية على مستوى البنية الأساسية التى تشكل العمود الفقرى لأى تنمية, ليس فقط لأنها تمس مباشرة حياة المواطنين اليومية وتدخل فى صلب الدور الاجتماعى المفترض للدولة ولكن أيضا وبالاضافة لأنها أحد العوامل الرئيسية لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية اللازمة للمشروعات الكبرى خاصة وإننا نعيش فى عالم شديد التنافسية يتطلب رفع مستوى القدرات الذاتية لنكون قادرين على المنافسة.
باختصار، نحن فى حاجة الى إعادة ترتيب الأولويات فى هذه المرحلة الاستثنائية بحيث تُعطى للقطاعات الحيوية من خدمات ومرافق وتعليم وصحة وغيرها, والتى لاغنى عنها لأى دولة تسعى للتقدم والارتقاء، إذ يصعب المضى فى كل المسارات فى وقت واحد وإلا توقفنا فى منتصف طريق كل منها. إن أغلب النماذج الناجحة التى حققت طفرة فى تجاربها التنموية من الصين الى جنوب شرق آسيا أو ما يطلق عليها النمور الآسيوية بدأت من تلك النقطة، بل أوروبا نفسها بتقدمها الهائل اليوم فعلت نفس الشىء عندما دُمرت بنيتها الأساسية بالكامل بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك يحدث فى أمريكا التى تختار بين الحين، والآخر سياسة تسميها بالانعزالية، وهى لا تعنى العزلة بالطبع، وإنما تبديل الأولويات فى حالات الارهاق الاقتصادى أو تزايد المتطلبات الداخلية وهى أمور بدورها شديدة المحلية. بعبارة أخرى ليس هناك عيب فى أن نفكر بشكل تقليدى أو من داخل الصندوق لمعالجة قضايا تقليدية بطبيعتها.
ولكن, ولأن موارد الدولة تكون عادة محدودة فى فترات إعادة البناء فغالبا ما تسعى الى اشراك القطاع الخاص معها كجهد مُكمل لما تقوم به فى هذا المجال, أى إننا نتحدث عن علاقة ثلاثية الأبعاد, الدولة التى تضع السياسات العامة والمجتمع المُستهدف من هذه السياسات ورجال الأعمال الذين يمثلون هذا القطاع, وهى علاقة على أهميتها, الا أنها مازالت تعانى من ضعف وتعتريها كثير من عوامل عدم الثقة بين أطرافها. فالمجتمع فى غالبيته لم يغير نظرته السلبية المعروفة والقديمة لرجال الأعمال ولا يُعرفهم إلا كجماعة مصالح بعيدة عن همومه ومشاكله, والدولة من جانبها ترى أن دورهم فى عملية التنمية لا يرقى الى المستوى المطلوب أوالمتوقع على الرغم من التسهيلات التى تقدمها لهم, وأن مالها العام كثيرا ما يُنهب وأراضيها تُستباح ويتم الاستيلاء عليها من أجل أحلام الثراء غير المحدودة, ورجال الأعمال بدورهم يتشككون فى نوايا الدولة تجاههم ويتذمرون من المعوقات البيروقراطية وأحيانا ما يعتبرون التبرعات التى يقدمونها، اما أنها كافية للايفاء بالتزاماتهم أو أنها نوع من الابتزاز وليس واجبا اجتماعيا عليهم فى ظل الظروف الصعبة التى تمر بها البلاد، ودليلهم فى ذلك أن معظم قضايا الكسب غير المشروع سواء ما تعلق بالمال العام أو الأراضى انتهت الى البراءة أو المصالحة والتسويات المالية, وهو حديث قد يتردد فى العلن أو فى الغرف المغلقة وفى كل الأحوال هو موجود ومثار.
إذن هذه العلاقة المتشعبة تعانى من خلل ما وستظل كذلك طالما ليس لها طابع مؤسسى مستقر أوقواعد ثابتة وواضحة تقوم عليها. فالاجراءات القانونية التى تتخذها الدولة تجاه من يتجاوز أو يخطئ هو من حقها تماما ولكنه لا يمثل سوى جانب من المشكلة مثلما أن مبدأ التبرعات فى ذاته ليس من قبيل الحلول طويلة الأجل لأنه نسبى ويُفترض فيه الجانب الطوعى وليس الملزم. لذلك فسيكون من المفيد أن تضع الدولة خطة شاملة للاستثمار أوالمساهمة بنسبة محددة من قبل رجال الأعمال فى المشاريع الحيوية العاجلة المشار اليها لاعادة بناء البنية الأساسية لا أن يُترك الأمر للمساهمات العشوائية غير المنظمة, وكثير من الدول الرأسمالية التى تأخذ بنظام السوق الحر تتبع أحيانا ما يُعرف بالتخطيط التأشيرى تلعب فيه الدولة دورا موجها فى الاقتصاد لصالح الدور الاجتماعى وبالتنسيق مع القطاع الخاص, وفرنسا هى نموذج بارز فى هذا الاطار لأنها من أنجح الدول على مستوى العالم فى مجال الرعاية الاجتماعية وتأخذ بهذا النظام. إن إصلاح هذه العلاقة الثلاثية سيعود بالفائدة على الجميع وسيضمن تحقيق الرضاء الاجتماعى الذى نحتاج اليه، فضلا عن أنه سيمهد الطريق لما هو أكبر, فلم يعد مقبولا أن تظل مصر تسجل أدنى الدرجات فى توفير الخدمات والاحتياجات الأساسية. نقلا عن الأهرام