أصارح القارىء بأن شعورا بالحيرة الشديدة يخامرنى منذ فترة ليست بالقصيرة، كلما سألت نفسى عما يفعله بالضبط علماء السياسة، أو أساتذة العلوم السياسية، أو الخبراء فى الأمور الاستراتيجية، وتزداد حيرتى عندما يتعلق الأمر بالأحداث السياسية الجارية، إذ نعرف جميعا ما تحاط به هذه الأحداث من سرية، أكثر مما كان عليه الحال فى الماضى، (رغم كثرة استخدام لفظ الشفافية فى هذه الأيام)، وإنفراد بعض الأشخاص (كثيرا ما يكونون غير معروفين) باتخاذ القرارات الحاسمة (رغم كثرة ما يقال من أننا نعيش فى عصر ازدهار الديمقراطية)، وحرص الجميع على إخفاء المصادر الحقيقية لهذه القرارات والمعلومات التى بنيت عليها، بل لقد أصبحنا جميعا نعرف مدى التعارض بين ما تنشره وسائل الإعلام، وبين الحقيقة، وزيادة مهارة المسئولين عن هذه الوسائل، وعن اتخاذ القرارات المهمة، فى خداع الرأى العام وتصدير الأمور على غير حقيقتها.
فى عالم غير شفاف، إلى هذه الدرجة، يصعب أن نتصور كيف يمكن للمتخصص فى الشئون السياسية أن يصل إلى الحقيقة بأى درجة من اليقين، وألا يتجاوز دوره التخمين والتعبير عن ظنون مبنية على عدد قليل جدا من الوقائع الموثوق بها، ومادام الأمر كذلك، يصعب اعتبار ما يكتب أو يقال عن هذه الأمور جزءا من «علم من العلوم» كما يصعب وصف كاتبه أو قائله «خبيرا» من أى نوع.
أظن أن هذا هو سبب ما لاحظته على كثير من المشتغلين بالعلوم السياسية من اهتمام زائد بتفاصيل صغيرة، تدل كل الدلائل على أنها ضعيفة الأثر جدا فى تحديد مجرى الأمور.
هذه التفاصيل الصغيرة تمتاز بأنها يقينية، ومن ثم قد تكون أقرب إلى العلم من غيرها، ولكنها للأسف غير حاسمة وقليلة الأهمية، ومن ثم كان من الممكن جدا الاستغناء عن ذكرها دون أن يعطل هذا من الوصول إلى الحقيقة، بل قد يكون ذكرها والاهتمام بها من العوامل التى تبعد الباحث وتلاميذه عن الحقيقة، من الأمثلة على ذلك الاهتمام بانقسام المجتمع، فى دولة صغيرة، إلى طوائف من حيث العقيدة أو الولاء القبلى، عندما يكون من الواضح كالشمس أن القرارات العليا لا تتأثر بهذا الانقسام، أو أن لدولة عظمى دورا أساسيا فى تسيير أمور هذه الدولة الصغيرة، عن طريق تحكمها فى الدكتاتور الذى يحكمها، من أمثلة ذلك أىضا محاولة تفسير قيام ثورة بسوء الأحوال الاقتصادية (التى يسهل الحصول على بيانات وأرقام بشأنها) على الرغم من أنه قد يكون من الواضح كالشمس أيضا أن الأحوال الاقتصادية كانت سيئة كذلك طوال العقود السابقة، دون أن يؤدى ذلك إلى قيام ثورة، كذلك قد يعلق خبراء السياسة أهمية مبالغا فيها على تغيير الشخصيات التى تتولى وزارة ما، أو تتولى رئاسة الحكومة لتفسير قرار سياسى مهم، رغم أن من الواضح أن الوزير أو رئيس الحكومة لا يقوم فى الحقيقة بدور يزيد على دور السكرتير أو مدير المكتب للشخص الذى يصدر مثل هذه القرارات أو للاشخاص المجهولين المحيطين به.
هذه الحالة السيئة للتحليلات السياسية تعيد إلى ذهنى القصة الطريفة المشهورة عن جحا، الذى شوهد مرة، وهو واقف تحت عامود للنور فى الشارع، يبحث عن بعض الدنانير التى وقعت من جيبه، فلما سئل عما إذا كانت الدنانير قد وقعت منه فى هذا المكان، قال: لا ولكن النور فى هذا المكان أقوى! هل يمكن أن يأمل جحا حقا فى العثور فى هذا المكان عما يبحث عنه؟ وهل يمكن أن نأمل حقا فى أن يعثر المحلل السياسى على إجابة عن أى سؤال مهم، وهو يستغرق فى تأمل بعض التفاصيل غير المهمة، وتقليبها على أكثر من وجه، لمجرد أنه لا يعرف غيرها؟.
يذكرنى أيضا هذا النوع من البحوث السياسية والاجتماعية برأى أرسطو، فيمن يحاول أن يصل إلى نتائج يقينية عن أمور يصعب جدا أو يستحيل الوصول فيها إلى اليقين، سواء كان هذا لقلة المعلومات المتاحة أو لأى سبب آخر، إذ قال أرسطو ما معناه أننا يجب ألا نطمح فى الوصول إلى درجة من الدقة فى أى بحث، أكثر مما تسمح به طبيعة الموضوع الذى نبحثه هكذا أرى الكثير من الموضوعات السياسية التى يتطرق لبحثها علماء السياسة، ويندر أن تتاح لهم فيها المعلومات اللازمة.
حدث لى فى الاسبوع الماضى ما قوى من شعورى بالحيرة والأسف إزاء حالة التحليلات السياسية التى تنهال علينا كل يوم كان لدى منذ زمن طويل شوق شديد إلى فهم ما يجرى فى سوريا، منذ بدأت تتوالى علينا أخبارها المأساوية منذ خمس سنوات، فعلى الرغم من ضخامة عدد الضحايا، واستمرار القتال وأعمال التدمير والتخريب طوال هذه الفترة الطويلة، لا تبدو لهذه المأساة نهاية قريبة، ولا يبدو أن أحدا من أطراف النزاع يريد الكف عما يقوم به، فى الوقت نفسه تنعقد المؤتمرات والاجتماعات الدولية فى خارج سوريا، لبحث طريقة إنهاء القتال، دون أن يدعى إليها السوريون، وكأن السبب الحقيقى للنزاع لا يكمن فى تعارض رغبات السوريين أنفسهم، بل فى تعارض رغبات أطراف أخرى خارج سوريا، ولكن ما هى هذه الرغبات الأخرى بالضبط؟.
فرحت إذ وقع فى يدى عدد شهر نوفمبر من مجلة سياسية فرنسية عريقة، مشهورة بالرصانة والعمق، ومترجمة إلى الإنجليزية، وحدث فى صفحتها الأولى بداية لمقال طويل عن موقف الرئيس الروسى بوتين مما يجرى فى سوريا، ثار فى نفسى الأمل أن أجد فى هذا المقال بغيتى فافهم منه ما يجرى بعد طول انتظار، ولكن ما أشد خيبة الأمل التى أصبت بها، قرأت المقال ببطء وتمعن فى كل جملة، فلم أعثر على أى معلومة جديدة لم أكن أعرفها، ولا محاولة حقيقية لتفسير ما يحدث، بل تكرار لما هو معروف عن رغبة روسيا المشهورة فى أن يكون لها منفذ على البحر المتوسط، وعن اتفاق المصالح بين روسيا وإيران، دون بيان لهذه المصلحة بالضبط، وتعارض هذه المصالح مع مصلحة الولايات المتحدة دون بيان لهذه المصلحة بالضبط أىضا... إلخ.. أما داعش وأمثالها، فهناك بالطبع إشارة إلى رغبتها فى إعادة الخلافة الإسلامية، دون أى إشارة إلى تفسير نموها المؤهل فى السنوات الأخيرة، أو إلى أى علاقة بينها وبين دول أخرى، على الرغم من تصريح بوتين الأخير والمذهل من أنه واثق من أن وراء داعش دولة أو دولا من بين الدول العشرين المجتمعين فى تركيا لبحث أمور من بينها الأزمة السورية.
سألت نفسى عما إذا كان قد آن الأوان للاعتراف بيأسى التام من العثور على تحليل سياسى مقنع من بين التحليلات المنشورة فى وسائل الإعلام المعروفة، يعطينى الإجابات التى أبحث عنها، وأن أقنع بأن أبحث فى الظلام الدامس عما ضاع منى فى مكان مظلم. نقلا عن الأهرام