سلطت هجمات باريس الدموية في الثالث عشر من الجاري الأضواء على جارة فرنسا الصغيرة الى الشمال: بلجيكا، وعلى وجه التحديد الى العاصمة بروكسيل، ومنطقة مولنبيك حيث تتجاور الأرصفة التي يغزوها العشب والمباني المتآكلة جنباً الى جنب منازل متواضعة وكأنها اسنان متآكلة لم تقتلع ولم ترمم. وعدد سكان مولنبيك حوالى مئة ألف نسمة، 40 في المئة منهم مسلمون، وثلاثة ارباعهم يتحدرون من اصول مغربية أو تحدر أسلافهم من المغرب.
وعلى خلاف باريس، ليست احياء المهـــاجرين في بروكسيل في الضواحي أو علــى الأطراف، بل هي في قلب العاصمة. وهـــي متصلة بشبكة باصات ومترو، وتقع علــى بُعد 25 دقيقة مشياً من وسط المــدينة. وفي الماضي، كانت مولنبيك منطقة صناعية اقيمت على مقربة من شبكة محطات قطارات ومواصـــلات، وعرفت يومها بـ «مانشستر الصغيرة». وكانــــت الصناعة تغلب عليها. ولكـــن مع الوقت اغلقــــت المـــصانع ابوابها، وتحولت مولنبيك الى منطقة سكنية ينزل فيها عمــال ومهاجرون جدد وتنتشر فيها مقاهي الشاي التي يجتمع فيها الرجال ويضحكون وينادون بعضهم بـ «يا صاحبي».
وليست مولنبيك محلة سكن فحسب، بل هي مركز مخططي هجمات ارهابية: من اغتيال الزعيم المعادي لطالبان، احمد شاه مسعود، قبيل هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001، الى اعتـــداءات مدريد في 2004، وصولاً الى إرداء 4 اشخاص في متحف بروكسيل اليهودي في 2014. وحوادث هذا العام من الاعتداء المسلح الفاشل على قطار سريع، الى حملات مكافحة الإرهـــاب في فيرفييه البلجيكية، الى الاعتداء على المتجر الباريسي اليهودي والهجمات الأخيرة في العاصمة الفرنسية، وثيقة الصلة بمولنبيك.
ولكن لماذا تحولت مولنبيك الى بؤرة الإسلاميين الراديكاليين؟ ساهم في هذا التحول انقسامات المجتمع البلجيكي. فالبلد يشوبه نظام فصل لغوي يفرق بين الناطقين بالهولندية الفلاندر (فلمنكية) والناطقين بالفرنسية الوالونيين. وإذ يستمع المرء الى وسائل اعلام المجموعتين السكنيتين وإلى خطابات سياسييهما، يخلص الى ان بلجيكا غير موجودة. وكل من المجتمعيْن يعيش حياة على حدة ومنفصلة تماماً. وهذا الانقسام يشل عجلة المؤسسات الإدارية. ففي بلجيكا ست حكومات: حكومة فيديرالية وحكومة فلندرية في مناطق الفلندريين، وحكومة الناطقين بالفرنسية، وحكومة الناطقين بالألمانية، وحكومة في منطقة الوالون وحكومة العاصمة بروكسيل.
وتحاكي البلديات تذرّر السلطة السياسية. وثمة إرث قويّ يرسخ الحكم المحلي والعلاقات الوثيقة بين السياسيين ومجتمعهم. ولكن هذا الإرث هو وراء سعي السياسيين الى حماية مواقعهم ومصالحهم ومعقلهم فحسب من غير احتساب مصلحة وطنية جامعة.
وبروكسيل هي آية هذا التشرذم السياسي والانقسام فشؤونها تدار كما لو كانت مدينة - دولة. وفيها 19 مقاطعة في كل منها محافظ. ويبلغ عدد اجهزة الشرطة فيها ستة، وتتردد (هذه الأجهزة) في التعاون والعمل المشترك، وتعزف عن مثل هذا التعاون في احيان كثيرة. والثقة غائبة بين الأحزاب الحاكمة أو بين أثرياء مقاطعات المدينة وفقرائها. ويصف هانز بونتي، محافظ فيلفورديه، وهي ضاحية شمال بروكسيل يتحدر منها عدد من المقاتلين الأجانب، الإجراءات الأمنية في العاصمة بـ «نموذج الفوضى المنظمة الأمثل». وتفتقر الاستخبارات البلجيكية الى ناطقين بالعربية في دائرة الأمن الداخلي، وهي أخفقت في تجنيد متطرفين سابقين. وترك ضباط الشرطة والاستخبارات الراديكاليين من غير رقيب او حسيب، وسارعوا الى افتراض ان المخبرين سيبلغونهم لا محالة بخطط المتطرفين. وكثر يلقون بلائمة سياسة التراخي والتسليم على فيليب مورو، المحافظ الاشتراكي في مولنبيك بين 1993 و2012. فهو خشي ان يغضب الناخبون المسلمون من تشديد قبضة الشرطة.
ويرى جون ليمن، استاذ الاجتماعيات الشرفي في جامعة لوفن وعميد منظمة «فوييه» التي تسعى الى دمج اقليات مولنبيك (في المجتمع الأوسع)، ان ما آلت اليه الأمور ليس مسؤولية شخص واحد، وأن الشــرطة والاستخبارات هي وراء الأزمة. «حين نبّهت الشرطة وجهاز الأمن الشخصي في 1999 الى خطورة الشيخ الراديكالي بسام عياشي، وقفا موقف المتفرج»، يقول ليمــن. ولم تسع الحكومة الفلَندرية وحكومة بروكسيل الى الحؤول دون تطرف اليافعين. وتلتزم الحكومة الفلندرية برنامج دمج في مناطقها. وفي بروكسيل، يسع من يشاء أن ينتسب الى برنامج الاندماج الاختياري.
ومولنبيك صارت اليوم أشبه بمعسكر تخطيط الهجمات على فرنسا. ويبدو ان الإرهابيين يرون ان بروكسيل هي مخبأ مناسب قريب من فرنسا. وإثر الهجمات الأخيرة في باريس، شعر السياسيون البلجيكيون بالارتباك والغضب، ووعد وزير الداخلية بـ «تنظيف مولنبيك». وتمسّ حاجة بلجيكا الى رد متعدد الجوانب يجمع سلطات الشرطة المختلفة ويستهدف الجهاديين المحتملين. وتحتاج كذلك الى تعزيز اجهزة الأمن من طريق توظيف ناطقين بالعربية. ويجب الاستثمار في مبادرات تشرك الشباب المسلم والأئمة وتحول دون تطرف المجتمع. وإذا تعثّرت مساعي بلجيكا في مكافحة التطرّف، قد تصبح في مرمى الإرهاب الإسلامي ولا تعود مركزه فحسب. نقلا عن الحياة
* باحث في الشؤون العربية، كاتب في صحيفة «دي ستاندر» الفلندرية، عن «نيويورك تايمز» الأميركية،21 - 22/11/2015، إعداد م. ن.