يبدو أن الاتحاد الأوروبي عاجز عن التزام رد متماسك على تمزّق العالم العربي وتهديده الاتحاد. ويسعى ثلاثة رؤساء أوروبيين الى جبه هذا التحدّي: فرنسوا هولاند، الرئيس الفرنسي، الذي يخوض الحرب من غير شريك، والمستشارة الألمانية، أنغيلا مركل، التي التزمت استقبال لاجئي الحرب السورية من دون التنسيق المسبق مع شركائها الأوروبيين، وديفيد كامرون، رئيس وزراء بريطانيا الذي يغامر بإجراء استفتاء على بقاء بلاده في أوروبا. وتغذي هذه الدينامية الثلاثية والمتباينة (قوى متجاذبة كلّ منها يشد أوروبا الى اتجاه) أهواء قومية وشعبوية مدمرة. واليوم، تبدو المشاريع الأوروبية كلها معلقة: السلام الأوروبي، وحدة القارة، إلغاء الحدود، والعملة الموحّدة نفسها. وبادر رئيس الدولة (الفرنسية) الى تعليق العمل بقوانين منطقة اليورو، قائلاً أمام الكونغرس الفرنسي أن «(كفة) الأمن الداخلي تغلب على (كفة موجبات) ميثاق الاستقرار (الأوروبي)».
دخل هولاند، عالم السياسة الدولية من باب الحملة العسكرية في مالي في كانون الثاني (يناير) 2013. فهو ممثل القوة الأوروبية القادرة على تدخّل حاسم. وتوسل بالتدخل الخارجي الى تجميل صورته، إذ أخفق في إدارة التحديات الاقتصادية والداخلية الفرنسية. ومذاك، درجت باريس على التدخل أو تأييد التدخل. ولا شك في أن ثمة مسوغاً يعتد به وراء التدخل أو الاستعداد له من قبيل الحؤول دون سقوط باماكو، والاقتصاص من بشار الأسد لاستخدامه السلاح الكيماوي ضد المدنيين، والحؤول دون الانتشار النووي من طريق التزام موقف متشدد في المفاوضات مع الإيرانيين. وفي وقت ينحسر الدور الأميركي والبريطاني الخارجي نتيجة حرب العراق الكارثية، تغرد باريس خارج السرب وتغامر بانتهاج سياسة خارجية متشددة. لكن، هل فرنسا مؤهلة لمثل هذا الدور وهي مثقلة بماضيها الكولونيالي (المساهمة في رسم حدود سايكس – بيكو في 1916 على أنقاض السلطنة العثمانية، وحملة السويس في 1956، واستعمار الجزائر)؟ واليوم، العاصمة الفرنسية في مرمى الإرهاب على نحو ما كانت لندن ومدريد إثر مشاركتهما في حرب العراق.
ويدعو هولاند الحلفاء الى مساعدة بلاده من طريق التوسل ببند التضامن في الاتحاد الأوروبي، ودعوة مجلس الأمن الى الانعقاد. لكن الرئيس الفرنسي استند الى البند 7 - 42 من اتفاق لشبونة - وهو بند لم يسبق اللجوء إليه. وكان الأحرى به الاستعانة بالبند 222 الذي يُلزم الأوروبيين المساعدة العسكرية. والى الاتكاء على تضامن أوروبي غير مضمون، بادر هولاند الى التعويل على أوباما وبوتين. وليس في الإمكان حمل الأوروبيين على تضامن فعلي من غير اللجوء الى البند الخامس من شرعة «حلف شمال الأطلسي». لكن فرنسا وريثة الديغولية (نسبة الى شارل ديغول) وهي لا ترغب في التعاون مع الناتو، وتفضل الانعتاق من قيوده ومن نظم منطقة اليورو لتطلق يدها في تمويل التزاماتها العسكرية.
ترى برلين أن فرنسا هي «الأمة الكبيرة» في أوروبا، في وقت لا يزال الماضي النازي يقيد ألمانيا. ويندد المحافظون الجدد الأميركيون بعزوف ألمانيا عن أداء دور قوة وازنة. وكأنها وقعت في هوى السلام وصارت تعجز عن الحرب. فأنغيلا مركل لم ترغب في المشاركة في الحرب على ليبيا. والحيرة غلبت على موقفها من الحرب السورية. وقبل الهجمات، شرعت أبواب بلادها أمام اللاجئين. ولا يفهم الأوروبيون موقفها منهم، شأن إقبال فرنسا على التدخل العسكري. لكن منح ألمانيا السوريين حق اللجوء كان في مثابة دعوة مركل الشركاء الأوروبيين الى مشاطرتها في استقبال اللاجئين. لكنهم أساؤوا فهم خطوتها، ولم يمدوا اليد إليها، واتهموها بالمبادرة الى جذب اللاجئين الى أوروبا. وبعد شهرين، صار الجو آسناً في ألمانيا: ولاية بافاريا تشجب سياسة الأبواب المفتوحة «المركلية» (نسبة الى مركل)، شأن وزراء في حكومتها منهم وزير الداخلية، توماس دي ميزيير، ووزير المالية، ولفغانغ شوبل. وارتفعت نسبة تأييد الشعبويين الألمان المعادين للمهاجرين واليورو الى 9 في المئة من الأصوات. ويتوقع أن تنزلق ألمانيا الى التقوقع، وأن يغلب التيار اليميني على السياسة وتنقبض سياسة دعم اليورو.
ويرى الفرنسيون (وهم يشجبون سياسة التقشف التي فرضتها ألمانيا على دول الاتحاد الأوروبي)، أن الألمان سيزعمون أن الإنفاق لا يخل بالضرورة بالموازنة، وأنهم يبذلون 6.1 بليون يورو في 2016 لاستقبال اللاجئين (تقول البلديات أن الرقم يبلغ حوالى 15 بليون يورو) من دون الإخلال بتوازن الموازنة، ومن دون تضخم الدين العام. كما في وسع الألمان القول أنهم سيرفعون موازنتهم الدفاعية الى 34.2 بليون يورو في 2016. وهذه موازنة قريبة من الموازنة الفرنسية البالغة 34.6 بليون يورو، و42.5 بليون حين احتساب رواتب المتقاعدين. وإذا تذرع الفرنسيون بالاعتداءات للتنصّل من إصلاح نظام المساعدات الاجتماعية، رفض الألمان ترسيخ اندماج منطقة اليورو (صندوق دين مشترك وسياسة مالية واحدة...)، وهو شرط نجاة الاتحاد من الأزمة.
يعقد كامرون حملة الاستفتاء على الخروج من أوروبا، وموعدها يتزامن مع انتخابات 2017 في فرنسا وألمانيا. وهذا الاستفتاء يشد عود شعبويي البر الأوروبي. فهو يتوسل خطاباً معادياً للعمال المهاجرين، ويناوئ الاندماج في منطقة اليورو بذريعة حماية الـ «سيتي» (المركز المالي اللندني). وكانت مواقف بريطانيا - توني بلير في 2005 وراء اتفاق دستوري أوروبي مخيّب للآمال، ورفض الفرنسيون مشروع الاتفاق. لكن الألمان قد يتراجعون أمام شروط بريطانيا على أمل بقائها في الاتحاد. نقلا عن الحياة
* معلّق، عن «لوموند» الفرنسية، 19/11/2015، إعداد م. ن.