المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ جلال أمين
د‏.‏ جلال أمين

ثمانون عاماً من حياتنا الثقافية

الإثنين 30/نوفمبر/2015 - 10:44 ص

أبدأ بالاعتراف بأن لديّ مشاعر قوية إزاء المشهد الثقافى الراهن فى مصر، وبأنها ليست مشاعر إيجابية على الاطلاق. وأظن أن كثيرا من القراء يشاركوننى هذا الموقف. عندما حاولت أن أتقصى أسباب هذا الشعور، خطر لى أن أستعرض ماحدث للمشهد الثقافى فى مصر طوال سنوات عمرى كلها، وهى ثمانون عاماً. فاكتشفت أن من الممكن تقسيم هذه الفترة إلى أربع فترات تكاد تكون متساوية فى الطول، لكل منها ملامح، من حيث نمط الثقافة السائد، متميزة عن ملامح الفترات الأخري.

وجدت أن من الممكن تقسيم هذه الثمانين عاماً إلى الفترات التالية :

الأولى : (35 ـ 1955) ولنسمها فترة ماقبل ثورة 1952، رغم أنها تشمل السنوات الثلاث التالية لهذه الثورة، إذ من الممكن القول بأن هذه السنوات الثلاث الأولى (52 ـ 1955)، لم تكن بعد سنوات «ثورية» بمقدار ماكانت امتداداً لما قبلها.

والفترة الثانية : (55 ـ 1975) لنسمها فترة ثورية 1952، رغم أن هذه الثورة كانت قد بدأت تشيخ ويصيبها الأفول فى الثمانى سنوات الأخيرة من هذه الفترة، أى ابتداء من الهزيمة العسكرية فى 1967.

والفترة الثالثة : (75 ـ 1995) هى فترة «الانفتاح والهجرة».

والرابعة والأخيرة : (95 ـ 2015) تشمل النصف الثانى من عهد حسنى مبارك والخمس سنوات التالية لثورة 25 يناير 2011.ماالذى أقصده بالضبط «بالمشهد الثقافي» فى أى فترة من هذه الفترات الأربع ؟ أقصد به أولاً، حالة الأدب، أى الرواية والقصة القصيرة والقصيدة والشعر ، وكذلك الانتاج المسرحى والسينمائي، والموسيقى والغناء. كما يشمل المشهد الثقافى أيضاً حالة المجلات الثقافية والنقد الأدبي، ووسائل الاعلام، وحالة اللغة العربية، وقد أضيف أيضاً مايسمى بالانسانيات، وتشمل الفلسفة والكتابات التاريخية، وربما أيضاً حالة العلوم الاجتماعية، إذ إن إنتاجها هى والكتابات الإنسانية يعبر عن المناخ الثقافى العام أكثر مما تعبر عنه البحوث المنتمية للعلوم الطبيعية.

إذا استعدنا إلى الذهن المشهد الثقافى خلال الفترة الأولى (35 ـ 1955)، تذهلنا درجة ازدهاره وتألقه بالمقارنة بحالته الآن. وتزداد دهشتنا إذا تذكرنا كم كانت درجة الفقر ومستوى الأمية فى تلك الفترة، أعلى مما هما الآن.

يكفى لإدراك درجة هذا الازدهار أن نتذكر بعض الأسماء التى لمعت فى ذلك الوقت فى كل مجال من المجالات التى ذكرتها حالا. فى الأدب كانت ألمع الأسماء هى طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد، وفى المسرح والسينما نجيب الريحانى ويوسف وهبي. (هل يمكن أن نتصور أن ينتج الآن فيلم سينمائى يضاهى مثلا فيلم »سلامة فى خير« لنجيب الريحاني، سواء فى مستوى التمثيل فيه أو قصته أو رسم شخصياته أو خفة روحه.. إلخ ؟). وفى الغناء والموسيقي، أم كلثوم وزكريا أحمد والقصبجى والسنباطي، ومحمد عبدالوهاب. كانت من بين أغانى أم كلثوم الزائعة الصيت فى ذلك الوقت، قصائد لأحمد شوقى، وكان الناس، وياللعجب تتعاطف بشدة ليس فقط مع موسيقاها ولكن أيضاً مع كلماتها.

لم يكن التليفزيون قد ظهر بعد، ولكن الاذاعة كانت تقدم ثقافة رفيعة بالمقارنة بما تقدمه الآن الاذاعة أو التليفزيون. كان مما يمكن سماعه من خلال الراديو فى ذلك الوقت، أحاديث أسبوعية لكبار الكتاب، يلقونها بلغة عربية راقية، فيقبل عليها الناس.

كانت تصدر مجلتان ثقافيتان أسبوعيتان (الرسالة والثقافة) ومجلة شهرية (الهلال)، كانت كلها على مستوى رفيع، وذات أثر عميق على المثقفين، ليس فى مصر وحدها بل وفى سائر البلاد العربية.

إن كلاما مماثلاً يمكن قوله عن رقى النقد الأدبى فى تلك المرحلة، ونشاط النقاد فى متابعة الانتاج الأدبى الجديد، وشجاعتهم فى التعبير الصريح عن رأيهم فيه، واشتراك الأدباء الكبار أنفسهم فى كتابة النقد الأدبي. كما شهدت هذه الفترة انتاجا مبتكراً لعثمان أمين فى الفلسفة، ويوسف مراد فى علم النفس، وكتباً راقية فى التاريخ المصرى لعبد الرحمن الرافعي، وفى الاقتصاد لعبد الحكيم الرفاعى وحسين خلاف، وأذكر أنه فيما يتعلق بعلم الاقتصاد، لم يكن هناك اصطلاح أجنبى واحد مهم، لم يصك هذا الجيل من الاقتصاديين المصريين، مقابلا له فى اللغة العربية، يؤدى معناه بدقه وصحيحاً لغوياً.

 

شهدت الفترة الثالثة (55 ـ 1975) كثيرا من مظاهر الازدهار الثقافي، وإن كانت قد شابها بعض الشوائب المهمة كانت أوجه الازدهار وأوجه التراجع، كلاهما، تعود فى معظم الاحوال الى التدخل الشديد من جانب الدولة فى الحياة الثقافية عقب ثورة 1952. شهدنا فى هذه الفترة رعاية الدولة للمسرح والسينما والفنون الشعبية، وإعادة طبع كتب التراث وإتاحتها للناس بأسعار زهيدة، والتوسع الكبير فى الترجمة من لغات أجنبية أدى أيضا انتصار الدولة للطبقات الدنيا وإفساح المجال لها للتعبير عن نفسها، الى ظهور مواهب رائعة فى الأدب والمسرح والموسيقى والغناء، من الصعب ان نتصور ظهورها وانتشارها فى العهد السابق على الثورة. فلمعت أسماء يوسف إدريس فى القصة القصيرة، ونعمان عاشور وألفريد فرج فى المسرح، وظهرت مدرسة جديدة فى الشعر على أيدى صلاح عبدالصبور وعبدالمعطى حجازي، ومدرسة جديدة فى الغناء لمع فيها عبدالحليم حافظ وملحنوه العظام (كمال الطويل وبليغ حمدى ومحمد الموجي)، وظهرت أفلام من نوع جديد فى السينما أبعد عن المليودراما التى سادت قبل الثورة وأقرب الى الواقعية الاجتماعية (مثل الحرام لفاتن حمامة وشباب امرأة لتحية كاريوكا .. الخ)

استمر نجيب محفوظ، الذى كان قد لمع اسمه فى الفترة السابقة، فى الكتابة، وازداد لمعانا فى الخمسينيات والستينيات، فظهرت فى أواخر الخمسينيات ثلاثيته الرائعة عن تطور المجتمع المصرى (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية)، قبل أن يتجه، لأسباب سياسية وفنية، الى روايات وقصص رمزية. اقترن هذا بالتراجع، كما وكيفا، فى انتاج الكتّاب الكبار الذين تربعوا على عرش الثقافة قبل الثورة (كطه حسين والحكيم والعقاد)، ليس فقط لتقدمهم فى السن، ولكن أيضا لضعف تعاطفهم مع الثورة.

فى وسائل الاعلام أضيف التليفزيون فى سنة 1961، وعلى الرغم من بداية انتشار اللغة العامية على حساب الفصحى فى وسائل الاعلام، وتشجيع الدولة لهذا الاتجاه (أو على الأقل تهاونها فى صدّه)، استمر مناخ راق نسبيا فى الكتابة الصحفية. وفى برامج الاذاعة والتليفزيون، إذا قارناه بما جاء بعد ذلك، ظل التليفزيون الابيض والأسود هو السائد حتى نهاية هذه الفترة. وظلت قنواته قليلة العدد، وكانت برامجه تنتهى فى منتصف الليل، حين يعزف النشيد الوطنى ويترك الناس للنوم. كانت الحلقتان الثقافيتان الرئيسيتان (الرسالة والثقافة) قد توقفتا عن الصدور فى أوائل الخمسينات لعجزهما عن مواجهة ارتفاع التكاليف فى ظل التضخم، ولكن قدمت الدولة الدعم لمجلات ثقافية جديدة تعبر عن موقف الدولة الجديد من التغير الاجتماعى (مثل مجلات الكاتب والفكر المعاصر والمجلة وتراث الانسانية والطليعة). واستمرت مجلة الهلال على مستوى قريب من مستواها القديم، وإن كان قد تسلم مسئوليتها رجال أكثر تعاطفا مع سياسات الدولة الاجتماعية.

حل الكتاب اليساريون محل النقاد القدامى الأكثر حيادا فى القضية الاجتماعية، ولكن استمر مستوى النقد الأدبى عاليا على أيدى أمثال محمود العالم وعبدالعظيم أنيس ورجاء النقاش. وفى هذه الفترة أيضا ظهرت كتب مهمة فى الفسلفة والعلوم الاجتماعية، ككتب زكى نجيب محمود عن الوضعية المنطقية، وسيد عريس فى الانثروبولوجيا، وجمال حمدان عن «شخصية مصر».

ثم بدأ التدهور فى منتصف السبعينيات، حين بدأت الفترة الثالثة (75 ـ 1995)، مما يحسن معه التوقف وتأجيل الكلام فيه الى مقال تالٍ، وكذلك محاولة تفسير هذا التدهور. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟