ليس «داعش» صنو «القاعدة». وهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 كانت من طينة «عمليات الاستخبارات السرية». فـ«القاعدة» اشترى بطاقات السفر، ودرّب عناصره على الطيران. وأعدّ للعملية وموّلها بواسطة تحويلات مالية. لكن «داعش» هو وليد الجيل الثالث من الحركة الجهادية، وهو أقرب الى نموذج الشبكة منه الى البنى العمودية والتراتبية. وهذا النموذج يفسح المجال أمام الارتجال. ومنفذو عمليات «داعش» في أوروبا لا يلتزمون خريطة طريق أعدتها «سلطة» مركزية. فهم يتلقون تدريبات ويشجعون على شنّ عمليات، ويترك لهم أمر إثبات «كفاءتهم». وهجمات 2015 في فرنسا خير دليل على الارتجال، ولم يكلل منها بالنجاح سوى هجومين (هجوم السابع من كانون الثاني /يناير، و13 تشرين الثاني/ نوفمبر). وأخفقت الهجمات الأخرى: هجوم سيد أحمد غلام، الذي سعى الى مهاجمة كنيسة في فيلجويف وانتهى به الأمر الى إطلاق النار على قدمه، وهجوم أيوب الخزاني الذي لم يفلح في تلقيم سلاحه، رشاش كلاشنيكوف، في طاليس. وفي الهجمات الأخيرة، عجز 3 إرهابيين عن تفجير أحزمتهم الناسفة وسط الجموع في ملعب فرنسا. ويستند «داعش» الى أدبيات أبو مصعب السوري، وهو مهندس سوري تابع شطراً من دراسته في فرنسا، وكان مساعد بن لادن قبل أن ينشقّ عنه. وعلى خلاف بن لادن، لم تتصدر أولوياته مهاجمة العدو البعيد، أي أميركا، ورأى أن أوروبا هي خاصرة الغرب الرخوة. ففي أوروبا سكان يتحدرون من الهجرة ولم يندمجوا في المجتمع الأوسع، ويعانون مشاعر العداء والبطالة. وأوصى بحث هؤلاء على ثورة تصبغ بصبغة إسلامية. ومحمد مراح هو أول من التزم مشروع أبو مصعب السوري، في آذار (مارس) 2012.
ولم تستخلص أجهزة الاستخبارات الفرنسية ما يترتب على منطق أبو مصعب السوري: التجنيد بواسطة النظراء أو الأنداد والشبكات الاجتماعية. وعوّلت الاستخبارات على طرق رصد تقليدية ومراقبة المساجد، في وقت عزف الجهاديون عن التردّد إليها. وفاتها، على سبيل المثل، أن محمد مراح هو جهادي من الجيل الثالث مجنّد على الشبكة. وترمي هجمات باريس الأخيرة الى ترجيح كفة اليمين المتطرف والنفخ في معاداة المسلمين واضطهادهم، وتأمل باستدراج المتطرفين الفرنسيين الى حرق متاجر السلع الحلال وسحل المحجبات... فيعمّ شعور الظلم المسلمين الفرنسيين، وينضمون الى «داعش». لكن الهجمات الأخيرة لم تشنّ مثلاً، على اليهود دون غيرهم، بل استهدفت فرنسيين من منابت مختلفة، بينهم من يتحدّر من هجرة ما بعد الاستعمار. فأخفقت في استمالة عامة المسلمين، ولم تبرز حركة «لست بتاكلان» في أوساط مسلمي فرنسا تحاكي حركة «لست شارلي» (مجلة الرسوم الساخرة التي هوجمت في مطلع العام، وأُردي عدد من محرريها. ورفض مسلمون فرنسيون حملة الانتساب إليها رداً على الهجوم، ورأوا أنها أساءت الى رموزهم). والإرهاب الأعمى والاستعراضي قد يكون ناجعاً تكتيكياً، لكن لا ترتجى منه فائدة يعتدّ بها استراتيجياً وسياسياً. وينهار الإرهاب من غير تأييد شعبي، على نحو ما حصل في أول مرحلتين من الجهاد في فرنسا والجزائر في نهاية التسعينات.
واستراتيجية أبو مصعب السوري من شقّين: زرع التطرف في أوساط الشباب المسلم في الغرب، والجهاد ضد الأنظمة «الكافرة» في الجوار القريب. وساهم الربيع العربي في تفكّك الأنظمة والمجتمعات العربية التي تنكفئ أكثر فأكثر الى لحمتها القبلية أو المذهبية. واليوم، المشرق هو فسيفساء طوائف أو ملل، على نحو ما كان أيام السلطنة العثمانية أو الانتداب الفرنسي – ويومها برزت دولة علوية وأخرى درزية -، تتقاتل في حرب مشرعة لا تستثني أحداً. واستغلّ تنظيم «داعش» هذه الأحداث وأنشأ دولة سنّية تمتد من الموصل الى تدمر. والى شمالها، الأكراد والأتراك، والى غربها العلويون والمسيحيون واليهود، والى شرقها الشيعة والفرس.
وفي الشطر العراقي منها، ركن «داعش» هو نظام بعثي سنّي التزم خطاباً إسلامياً. لذا، يبدو راسخاً وقادراً على توجيه دفة كيان هو شبه دولة. لكن بنية «داعش» أضعف في سورية. فالسنّة لم يمسكوا بمقاليد دولة آل الأسد. لذا، يؤدي المتطوعون الأجانب دوراً أكبر في هذا الجزء من «الخلافة». فهم مفتونون بما يحسبون أنه جنة مُثل تتولى نشر العدالة. ويختلط في هذه «الجنة» الخطاب الاخروي بخطاب عالم ثالثي. وينظر المقاتلون الى الفرنسيين والبلجيكيين بعين الازدراء. فهم لا باع لهم في القتال. لذا، توكل إليهم عمليات انتحارية أم يقصر دورهم على أعمال لوجيستية. ومنهم من يتولى حراسة الرهائن. وهذه حال مهدي نموش المتهم بمهاجمة المتحف اليهودي في بروكسيل في 2015. وشنّ هجمات في فرنسا أو بلجيكا هو سبيل أمثال نموش الى إثبات عزمهم على الجهاد وقطع صلتهم ببلدهم. وتدمير موئل «داعش» في العراق وسورية لن يذلل مشكلات المجتمعات الغربية. فهي تربة خصبة للتطرف والجهاد. لكن قدرة «داعش» على جذب المقاتلين ستنحسر. ولن يؤذن القضاء على «داعش» في سورية والعراق بنهاية الحركة الجهادية. فـ «القاعدة» وُلد على أنقاض المرحلة السابقة، مرحلة عبدالله عزام في الثمانينات والتسعينات. وأبو مصعب السوري افتتح فصلاً جديداً من الجهادية. ويرجح أن يبدأ فصل جديد من الحركة الجهادية إثر القضاء على «داعش». نقلا عن الحياة
* باحث سياسي، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 25/11/2015، إعداد منال نحاس