المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

ملاحظات العشرون: مأزق الدولة الوطنية في المنطقة العربية

الإثنين 07/ديسمبر/2015 - 09:58 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
أ.د. محمد صفي الدين خربوش
أعادت أحداث ما سُمي بالربيع العربي إثارة النقاش حول مأزق الدولة الوطنية في المنطقة العربية، والتي نشأت في كثير من الحالات مقترنة بالاحتلال الأوربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد أدت أحداث نهاية العام 2010 وبداية العام 2011، في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، إلى فتح الأبواب على مصارعها  أمام توجيه سهام النقد العنيف إلى الدولة الوطنية العربية الحديثة الموسومة بالقطرية، كما ينظر إليها القوميون العرب؛  والتي أنشأها الاستعمار الأوربي كما يراها القوميون العرب والإسلاميون العرب وغيرهم؛ والعلمانية كما ينعتها الإسلاميون العرب ولا سيما المتطرفين؛ والمستبدة كما يطلق عليها الليبراليون العرب؛ وغير العادلة كما يراها الاشتراكيون العرب.
لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين - لاسيما الربع الأخير منه_ترسيخ الدولة العربية لمكانتها ولقدرتها على مواجهة أعدائها من القوميين العرب والإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين. ولم يقتصر هذا الترسيخ للمكانة على الدول العربية ذات الإرث التاريخي العريق مثل مصر والعراق واليمن، أو على الدول كبيرة المساحة أو السكان مثل مصر والسعودية والجزائر والسودان والمغرب؛ بل امتد ليشمل دولا عربية حديثة النشأة، محدودة المساحة، قليلة السكان مثل البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة. وقد جادل بعض أعداء الدولة الوطنية العربية الحديثة بأنه لولا طفرة أسعار النفط ما استطاعت هذه الدول العربية البقاء ويدحض هذا الرأي أن بعض هذه الدول ليست دولا نفطية مثل تونس والأردن ولبنان.
  لم  تكن أحداث ما سمي بالربيع العربي هدما للدولة الوطنية في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، ولم يسع المحتجون في تونس العاصمة والقاهرة وطرابلس الغرب وصنعاء ودمشق للقضاء على الدولة القائمة. وأثبتت الأحداث اللاحقة خلال السنوات الخمس الماضية أن الهدف الرئيسي لهؤلاء المحتجين من الإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين وغيرهم قد تمثل في إحلال نخب بديلة مكان النخب السابقة، أو بعبارة أخرى في السيطرة على هذه الدولة والتمتع بحكمها، مع استمرار الدولة بنفس سماتها القائمة منذ تأسيسها في المنطقة العربية. بل واكتشف بعض المتعاطفين مع هذه الاحتجاجات لاحقا أن ضعف الدولة قد جاء بآثار سلبية في معظم الأحيان على المواطنين العاديين، في حين أن بعض النخب ضئيلة العدد كانت هي المستفيد الأساسي من ضعف الدولة الوطنية، والذي بلغ في بعض الحالات درجة الفوضى.
ومن المفيد الإشارة إلى عدد من الملاحظات حول مقولة مأزق الدولة الوطنية في المنطقة العربية:

شهد النصف الثاني من القرن العشرين ترسيخ الدولة العربية لمكانتها ولقدرتها على مواجهة أعدائها من القوميين العرب والإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين
أولاً: لقد تم تغيير النظم السياسية إلى حد كبير في ثلاث دول عربية هي تونس ومصر وليبيا وجاء التغيير محدودا في حالة رابعة هي الحالة اليمنية، وما يزال النظام السوري قائما وهو الحالة الخامسة؛ وذلك من إجمالي إحدى وعشرين دولة عربية.
ثانيًا: لم يترتب على تغيير رأس النظام وإصدار دستور جديد للبلاد، كما حدث في كل من تونس ومصر، أو تغيير رأس النظام وعدم إصدار دستور جديد بعد، كما حدث في ليبيا واليمن، القضاء على الدولة الوطنية. فقد استمرت الدولة الوطنية المصرية ونظيرتها التونسية. ويدور الصراع في كل من ليبيا واليمن وفي سوريا بالطبع، بين القوى المتنازعة للسيطرة على هذه الدولة الوطنية.
ثالثًا: لم يترتب على تدخل العسكريين والقضاء على النظم السياسية القائمة في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، سواء أكانت هذه النظم نظما ملكية كما كان الحال في مصر والعراق واليمن وليبيا، أم جمهورية كما في سوريا والجزائر والسودان، القضاء على الدولة الوطنية. فقد قضى الضباط الأحرار في مصر على نظام استمر قرابة قرن ونصف قرن متطورا من الوالي إلى الملك مرورا بالخديو والسلطان. ولم يسع نظام يوليو للقضاء على الدولة المصرية التي أسسها محمد علي باشا، برغم العداء الشديد للأسرة العلوية.
رابعًا: لم تكن كل الدول العربية نتاجًا للاستعمار الأوربي الحديث. فلقد كانت مصر ولاية رومانية عندما فتحها العرب، وكانت للعرب ممالك صغيرة على حدود العراق والشام  (المناذرة والغساسنة). ناهيك عن الدول القديمة في مصر والعراق واليمن والشام. وكانت دولة الإسلام قدت وسعت من دولة المدينة حتى شملت شبه جزيرة العرب بأكملها قبل بدء الفتوحات في البلدان المجاورة.
خامسًا: لقد ولى الخلفاء الراشدون ومن تبعهم من الخلفاء ولاة في المناطق التي تم فتحها في العراق  (الكوفة والبصرة) وفي اليمن وفي الشام  (دمشق وحمص) وفي مصر وأفريقيا. وفي معظم الحالات، اتسق هذا التقسيم مع ما كان قائما عند الفتح العربي الإسلامي لهذه المناطق.
سادسًا: تأسست بدءًا من العصر العباسي الثاني دول شبه مستقلة في أرجاء العالم الإسلامي مثل الدولة الطولونية والإخشيدية والفاطمية (والتي أسست خلافة مستقلة بل ومناهضة للخلافة العباسية في بغداد ) والأيوبية ودولة المماليك، في مصر والشام؛ ودول الاغالبة والمرابطين والموحدين في شمال أفريقيا (المغرب العربي الكبير الآن). ولم يكن الاستعمار الأوروبي قد احتل هذه المناطق العربية وقام بتقسيمها كما يرى أعداء الدولة الوطنية العربية.
سابعًا: إخراج تاريخ المنطقة العربية بمحاولات للانفصال عن السيطرة العثمانية قبل أن تعرف المنطقة الاحتلال الأوربي؛ وكان السلاطين العثمانيون يولون على هذه المناطق ولاة من قبلهم. ومن أمثلة هذه المحاولات محاولة علي بك الكبير في مصر وضاهر العمر في الشام وأحمد القرمانلي في ليبيا، والدولتان السعودية الأولى والثانية في شبه جزيرة العرب. وكانت دول محمد علي أهم هذه المحاولات وأكثرها نجاحًا؛ فبالرغم مما فرضته معاهدة لندن عام 1840 على الدولة الفتية من قيود، وما اقتطعته من مناطق سيطرتها في الشام وفي شبه جزيرة العرب، فقد اعترفت لمصر بدولة شبه مستقلة، يشبه، أن لم يفق، درجة الاستقلال التي تمتعت بها الدولة الأيوبية أو دولة المماليك في العلاقة مع الخلافة العباسية في بغداد.
ثامنًا: عندما تعرضت المنطقة العربية للاستعمار الأوربي الحديث، كان بعضها  تشبه الدول المستقلة، مثل المغرب التي لم تخضع مطلقًا للسيطرة العثمانية، واليمن التي لم يتمكن العثمانيون من السيطرة إلا على بعض أجزائه ولفترات قصيرة. وكان  بعضها الآخر يتمتع باستقلال واقعي مثل مصر لاسيما في ظل حكم الخديو إسماعيل والجزائر في ظل حكم الداي حسين، بالرغم من تبعيتهما اسميًا للدولة العثمانية. فعندما احتلت فرنسا الجزائر عام 1830 واحتلت انجلترا مصر عام 1882، كانت كل منهما دولة شبه مستقلة. ومن ثم،  لم تكن مصر ولا الجزائر ولا المغرب ولا اليمن في القرن التاسع عشر من صنع الاستعمار الأوربي؛ وكانت سلطنة عُمان دولة مرهوبة الجانب تسيطر على الساحل الشرقي للقارة الأفريقية. ومن الجدير بالذكر أن معظم دول وسط وشرق أوروبا لم تكن قد ظهرت بعد، عندما كانت هذه الدول العربية دولا  شبه مستقلة.
تاسعًا: كانت منطقة الشام والعراق المثال الأكثر وضوحًا على تأثير السيطرة الأوربية، ومرد ذلك إلى استمرار السيطرة العثمانية حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى والتي انتهت بالقضاء على الدولة العثمانية نفسها. وقد اضطلعت كل من بريطانيا وفرنسا بالدور المحوري في نشأة دول هذه المنطقة وترسيم حدودها، بسبب اقتسامهما المناطق التي كانت تابعة للدولة العثمانية الآفلة. فلقد سيطرت بريطانيا على العراق وشرق الأردن وفلسطين، وسيطرت فرنسا على سوريا ولبنان. واعتبرت هذه المناطق دولا في طريقها للاستقلال، وفقا لنظام الانتداب الذي ابتكرته الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وتم إقراره من قبل عصبة الأمم. وقامت كل من بريطانيا وفرنسا، من خلال نظام الانتداب، بالاتفاق على ترسيم الحدود بين هذه الدول المنتدب عليها، وهي الحدود التي أصبحت حدود هذه الدول بعد استقلالها.
عاشرًا : عندما تأسست دول مستقلة

لم تكن كل الدول العربية نتاجًا للاستعمار الأوربي الحديث. فلقد كانت مصر ولاية رومانية عندما فتحها العرب، وكانت للعرب ممالك صغيرة على حدود العراق والشام
رسميا في كل من العراق ومصر في عشرينيات القرن العشرين وفي شبه جزيرة العرب  (المملكة العربية السعودية) في  الثلاثينيات، وفي سوريا ولبنان في الأربعينيات، وفي ليبيا والسودان وتونس والمغرب في الخمسينيات، وفي الكويت والجزائر واليمن الجنوبي في الستينيات، وفي قطر والبحرين وعمان والإمارات في مطلع السبعينيات من القرن  نفسه؛ لم يكن الاستعمار الأوروبي هو الذي أنشأ هذه الدول، بل كان إنشاؤها نتاج تاريخ طويل متراكم لدول مستقلة في التاريخ السحيق  (في مصر وسوريا والعراق واليمن )، أو لولايات خضعت لإمبراطوريات (مثل مصر والشام مع الدولة البيزنطية والعراق مع الدولة الفارسية عشية الفتح العربي الإسلامي؛ أو مراكز لدول شبه مستقلة بدءًا من العصر العباسي الثاني (مثل مصر مع الفاطميين والأيوبيين والشمالية وتونس مع الاغالبة والمغرب الأقصى مع المرابطين والموحدين؛ أو نتاج دول قومية بالمعنى الحديث مثل مصر مع محمد علي والمغرب مع الأشراف السعديين والأشراف العلويين وعمان مع البوسعيدية واليمن مع السعديين والمملكة العربية السعودية مع ال سعود وتونس في ظل حكم ولاتها (البايات) والجزائر في ظل حكم ولاتها (الدايات) حينما كانت الدولة العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة.
حادي عشر: كانت معظم الحركات الوطنية الساعية لتحقيق استقلال الدول العربية عن الاحتلال الأوروبي تسعى لتأسيس دول قومية بالمعنى الحديث، حتى لو تدثر بعضها أحيانا، لا سيما في المراحل المبكرة برداء إسلامي في مواجهة الاستعمار الأوربي غير المسلم. كان هذا حال الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل مؤسس الوطنية المصرية وحزب الأمة الذي كان يتحدث عن الأمة المصرية ثم حزب الوفد في مصر؛ ولم يختلف الأمر لدى حزب الاستقلال في المغرب وجبهة التحرير الوطني في الجزائر والحزب الدستوري في تونس ومعظم الأحزاب في لبنان والعراق وسورية عشية الاستقلال. وكان تأسيس الدولة في كل من اليمن والسعودية ترسيخًا للدولة الوطنية أو القومية بالمعنى الحديث.
ثاني عشر: عندما اجتمع زعماء الدول العربية المستقلة في عامي 1944و1945 للتباحث حول إنشاء جامعة الدول العربية، كان كل منهم يمثل دولة قومية بالمعنى الأوربي، بغض النظر عما إذا كانت دولهم ذات نظم ملكية مثل مصر والعراق والسعودية واليمن والأردن، أو جمهورية مثل سورية ولبنان. ولاحقا، استمر انضمام الدول العربية المستقلة إلى الجامعة العربية تباعا باعتبارها دولا قومية.
ثالث عشر: إذا كانت الدول العربية لم تعرف الحدود السياسية العربية الرسمية ولا جوازات السفر ولا تأشيرات الدخول قبل نشأة الدول القومية، وهي الذريعة المفضلة لدى أعداء الدولة القومية من الإسلاميين والقوميين العرب، فإن هذا الأمر لم يكن مقصورا على المنطقة العربية، بل كانت ظاهرة منتشر في أرجاء المعمورة، لاسيما مع شيوع نمط الدول الإمبراطورية التي كانت المنطق العربية جزءا من إحداها لفترة ليست بالقصيرة . فعلى سبيل المثال، لم تكن هناك حدود بين النمسا والمجر وبينهما وبين غيرهما من الأقاليم التي كانت جزءا من الإمبراطورية النمسوية المجرية في وسط وشرق أوربا حتى الحرب العالمية الأولى.
رابع عشر: إذا كان الدين قد مثل العامل الحاسم في استقلال باكستان ذات الأغلبية المسلمة عن الهند ذات الأغلبية الهندوسية عام  1947، فإن نفس العامل لم يحل دون انفصال باكستان الشرقية  (بنجلاديش ) عن باكستان الغربية بعد حرب طاحنة مطلع السبعينيات، كما لم يمنع ذلك من وجود أقلية مسلمة في الهند  (11 بالمائة تقريبًا).

كانت معظم الحركات الوطنية الساعية لتحقيق استقلال الدول العربية عن الاحتلال الأوربي تسعى لتأسيس دول قومية بالمعنى الحديث
خامس عشر: لقد تأسست دول ذات أغلبيات إسلامية في أوربا (ألبانيا والبوسنة)، وفي آسيا غير العربية (مثل باكستان وبنجلاديش وإندونيسيا وماليزيا)، وفي أفريقيا (مثل تشاد ومالي والنيجر). ونجحت هذه الدول، بالرغم من عدم وجود تاريخ للدولة في معظمها، في ترسيخ دول قومية بالمعنى الحديث؛ ولم يقف الإسلام عائقا أمام ذلك. أكثر من ذلك، لقد أسس كل من الإيرانيين والأتراك  (القوميتان الأكثر حضورًا في الدولة الإسلامية إلى جانب العرب) دولة قومية بالمعنى الأوروبي الحديث لكل من القومية الفارسية والقومية التركية. وتنتهج كل من إيران وتركيا منذ تأسيس الدولة القومية الحديثة في كل منهما سياسة قومية تسعى للدفاع عن المصالح القومية الإيرانية والتركية والحفاظ على الأمن القومي لكل منهما، سواء أكانت إيران الشاه أم إيران الخميني، أو كانت تركيا أتاتورك وديميريل ام تركيا اربكان وأردوغان.
سادس عشر: إذا كانت الاحتجاجات قد اندلعت في خمس دول عربية نهاية  عام  2010 ومطلع عام  2011؛ فمن المؤكد أن دوافعها كانت اقتصادية بالأساس، ولم تكن من أجل القضاء على الدولة القائمة، ولم تكن لتحقيق الديمقراطية إلا لدى نخبة قليلة العدد محدودة التأثير، ادعت قيادة هذه ''الثورات " كي تحل محل النخب السابقة في السيطرة على مقدرات الدول القائمة. ولم يختلف الأمر لدى ذوي الاتجاه الإسلامي الذين وجدوا في هذه "الثورات "فرصة ذهبية للسيطرة على هذه الدول والتمتع بمكانة السلطة. ولقد اتضح هزال هذه النخب البديلة من الإسلاميين والليبراليين وغيرهم، عندما أتيحت لهم فرصة إدارة هذه الدول القومية. ويعتبر المثال التونسي الأكثر دلالة في هذا السياق. فبعد فترة انتقالية لم تستمر طويلا سيطر خلالها تحالف مؤقت من الإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين، انتخب التونسيون رمزا من رموز الدول القومية التي أسسها بورقيبة وحزبه الدستوري رئيسا للجمهورية، ومنحوا ثقتهم لحزب يعبر بالأساس عن الدولة البورقيبية لتشكيل الحكومة الجديدة. ولم تكن الدول التي أسسها بورقيبة ورسخ أقدامها بن علي إلا تعبيرا عن الدولة القومية.
سابع عشر: سيظل الحديث عن العولمة واختفاء الدولة القومية تعبيرًا عن أفكار طواعية تشبه الأفكار الخيالية عن الحكومة العالمية، والتي أشار إليها بعض المفكرين السياسيين منذ القدم، وظلت محصورة في مخيلة نخبة محدودة من ذوي النزعات الإنسانية؛ وما الحديث عن التكتلات الاقتصادية الكبرى إلا تعزيزا للمصالح القومية للدول القومية الحديثة. وإذا كان البعض يستخدم مثال الاتحاد الأوربي للدلالة على تراجع الدولة القومية، فإن إمعان النظر في هذه التجربة يثبت صحة وجهة النظر المختلفة. فمن المؤكد أن أيًا من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي لن تذوب في كيان أوربي موحد، ولن تختفي الجنسيات الألمانية والفرنسية والإيطالية ناهيك عن البريطانية. وتنطلق سياسات الدول أعضاء الاتحاد الأوربي من منطلقات قومية بحتة. ويستوي في ذلك الدول الكبرى ذات النفوذ الأكبر في الاتحاد لا سيما ألمانيا وفرنسا مع الدول الصغيرة والأقل نفوذا مثل بلجيكا ولوكسمبرج أو دول شرق أوروبا المنضمة حديثا إلى الاتحاد الأوربي.
ثامن عشر: لقد مرت الدولة العربية الحديثة، مثلها في ذلك مثل باقي الدول لا سيما في أفريقيا وآسيا،  بأزمات متعددة وواجهت تحديات داخلية وخارجية، لكنها خرجت منها جميعًا وهي قادرة على البقاء. وثمة أمثلة شديدة الوضوح في هذا المجال. فقد حافظت الدولة اللبنانية على بقائها رغم الحرب الأهلية الطاحنة التي استمرت قرابة خمسة عشر عاما  (1975_1989) وتزامنت معها واعتبرها اعتداءات إسرائيلية متكررة،  بلغت ذروتها في احتلال العاصمة بيروت عام 1982. وبقيت دولة الكويت على الرغم من تعرضها لغزو عراقي شامل عام 1990 جعلها إحدى محافظات العراق. واستعادت سوريا دولتها السابقة على الوحدة مع مصر، بعد أن ظلت ثلاث سنوات ونصف السنة تسمى الإقليم الشمالي في إطار الجمهورية العربية المتحدة. ونجحت دولة الإمارات العربية المتحدة في ترسيخ أقدام دولتها الاتحادية المكونة من الإمارات السبعة بعد رحيل الآباء المؤسسين.
تاسع عشر: من الثابت أن انفصال جزء من الدولة القائمة، حال حدوثه، لا يؤدي إلى القضاء عليها. فقد انفصلت الجمهوريات السوفييتية إلى عدد من الدول المستقلة في البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى، وعادت أو أصبحت دولا قومية. وعادت روسيا الاتحادية دولة قومية بعد أكثر من سبعين عاما من إنشاء الاتحاد السوفيتي والذي كان اسم الدولة الرسمي اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. وانفرط عقد الاتحاد اليوغسلافي إلى عدة دول قومية أكبرها صربيا وأصغرها مونتينيجرو أو الجبل الأسود.  وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى جمهورية التشيك وسلوفاكيا، وانفصلت تيمور الشرقية عن إندونيسيا. ولم تسفر أي من حالات الانفصال عن القضاء على الدولة القومية لا في روسيا الاتحادية ولا في صربيا ولا في إندونيسيا؛ كما استمرت الهند من قبل عندما انفصلت عنها باكستان، وكما لم تختف الأخيرة عندما انفصلت بنجلاديش عنها. وفي المنطقة العربية، لم يؤد انفصال جنوب السودان إلى القضاء على الدولة السودانية.
اتضح هزال النخب البديلة من الإسلاميين والليبراليين وغيرهم، عندما أتيحت لهم فرصة إدارة هذه الدول القومية
عشرون: من المثير للدهشة أن معظم منتقدي، ولا أقول كارهي، هذه الدولة العربية - الفاشلة والوافدة، والتي صنعها الاستعمار الأوربي ورسم حدودها - يخشون سقوطها من خلال تقسيمها إلى عدد من الدول أو الدويلات كما يحلو للبعض تسميتها. ومرة أخرى، لقد اختفى الاتحاد السوفيتي وانهار الاتحاد اليوغسلافي وتوسع الاتحاد الأوروبي في وسط أوربا وشرقها؛ وظلت الدولة القومية قادرة على البقاء، سواء أكانت دولة عظمى مثل روسيا الاتحادية أو فرنسا وبريطانيا، أو دول متوسطة مثل أوكرانيا وصربيا وكرواتيا، أو دول صغيرة مثل البوسنة مونتينيجرو  أو حتى قزمية مثل لوكسمبورغ،  دون الحديث عن موناكو وأندورا وليخشنشتين . أليس من الغريب أن يتباكى الد خصوم الدولة العربية القطرية  الفاشلة صنيعة الاستعمار عليها؛ وقد ظلوا منذ إنشائها يصبون عليها اللعنات ويسعون للقضاء عليها سعيًا إما لإقامة دولة  قومية  عربية تضم العرب جميعًا أو دولة إسلامية للمسلمين من العرب ومن غير العرب أو للمسلمين العرب؟
واحد وعشرون: من الواضح أن الشعوب العربية مبتلاة ابتلاء شديدًا بنخبتها السياسية منذ نشأة الدول العربية الحديثة وحتى الآن. وثمة دلائل متعددة على هذا الابتلاء؛ بيد أننا سنشير فقط إلى أمرين. يتمثل الأمر الأول في استمرار إثارة نفس التساؤلات حول الدولة العربية الحديثة بعد أكثر من مائتي عام من تأسيس دولة قومية حديثة في مصر مع محمد علي، وبعد تسعين عامًا من الإلغاء الرسمي لخلافة إسلامية كانت قد تداعت قبل هذا الإلغاء  الرسمي بعدة قرون، وبعد أكثر من خمسين عامًا على الفشل الذريع لتجربة الجمهورية العربية المتحدة في سوريا، مهد الدعوة للوحدة العربية. ويكمن الأمر الآخر في ولع هذه النخب السياسية العربية بلطم الخدود بتحليل المؤامرات والمخططات المعادية؛ وبدلا من السعي لمواجهتها والتخطيط لذلك، نجدها تنتظر حدوثها، وربما تحتفي بذلك، ربما لإثبات صحة تحليلاتها وصواب رؤاها. لقد نجح البريطانيون في إقناع أغلبية سكان  أسكتلندا بالاستمرار جزءا من المملكة المتحدة، ونجح الكنديون في إقناع أغلبية سكان إقليم كيبيك بالاستمرار جزءا من الدولة الكندية. وقد تم ذلك خلال استفتاء عام في كل من اسكتلندا وكيبيك. فهل يوجد في النخب العربية من يبذل الجهد المطلوب، كما فعلت النخبة البريطانية لا سيما من ذوي الأصول الأسكتلندية حتى من لاعبي كرة القدم، والذين يلعبون باسم أسكتلندا في فريق مستقل، أو من بطل أسكتلندي عالمي في التنس؟
*أستاذ العلوم السياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟