فوز ماوريسيو ماكري على دانيال سيولي، مرشح الرئيسة الأرجنتينية، كريستينا كيرشنر، هو خاتمة دوران الأرجنتين في حلقة ما يعرف بـ «كيرشنريسمو» (حكم آل كيرشنر)، ودام هذا العهد 12 عاماً وقوض أسس دولة القانون. وفوز ماكري بغالبية بلغت 52 في المئة من الأصوات قد يؤذن بوقف المد الشعبوي الذي يهدد بإعادة عقارب الساعة في أميركا الجنوبية إلى ثمانينات القرن العشرين، من سياسة إفلاس فنزويلا التي التزمها هيوغو شافيز ومن بعده نيكولاس مادورو، وصولاً إلى انزلاق برازيل ديلما روسيف إلى الجحيم.
ويشير فوز ماكري المفاجئ إلى رغبة الأرجنتينيين في التغيير وقطع دابر النهج الماضي. وإرث آل كيرشنر هو الإفلاس. ولم يعد التلاعب بالإحصاءات يفلح في التستر على النتائج السلبية المترتبة على هذا الإرث. فالاقتصاد الأرجنتيني انكمش، وفصول الانكماش ستتواصل إلى العام المقبل ويتوقع أن تبلغ معدلات النمو السلبي -1 في المئة. وبلغ التضخم المالي 25 في المئة. وثلث الوظائف مداره على الاقتصاد «السفلي» أو غير المشروع، إثر انفجار البطالة وفشوها. وارتفع عجز الموازنة إلى 6 في المئة. وهذه نسبة مرتفعة في وقت تعاظم الإنفاق العام من 24.6 في المئة إلى 40.3 في المئة من الناتج المحلي في 2007. وأفضت الإجراءات الحمائية إلى شح مزمن في المواد الأساسية، ومنها الدواء والغذاء. والقيود على صرف العملات ساهمت في هرب رؤوس الأموال من البلاد والتباين بين البورصة الرسمية والاقتصاد الأسود. فالسعر الرسمي للبيزوس قياساً إلى الدولار الواحد هو 9.6 بيزوس، ولكن الدولار الأميركي في السوق السوداء يساوي 15 بيزوس. وتقلص احتياطي العملات الأجنبية من 52 بليون دولار في 2011 إلى 26 بليون دولار في 2015، و7 بلايين فحسب من مجمل الاحتياطي في متناول الحكومة وأكثر من 8 بلايين منه ستبذل تعويضات للدائنين نتيجة خلاف وثيق الصلة بسياسة هيكلة الدين.
وساهم تباطؤ النمو الصيني وهبوط أسعار المواد الأولية في انهيار الأرجنتين، ولكنهما لم يكونا علة الانهيار الأولى. وسبب الانهيار وثيق الصلة بسياسة آل كيرشنر الاقتصادية. وهذه السياسة أولت الأولوية للنفخ في قدرة شراء صورية من طريق توزيع مساعدات استهلاك الطاقة والنقل، وزيادة المساعدات الاجتماعية ورفع سعر العملة. وغالت الحكومة في فرض ضرائب مرتفعة على الشركات.
وصودر احتياطي المصرف المركزي وصناديق التقاعد لسد ثغرات في موازنة الدولة. وقطعت أواصر الأرجنتين بالأسواق الدولية على وقع إجراءات حمائية فرضت رسوماً جمركية وقيدت حجم المستوردات. وفككت مؤسسات دولة القانون، فانفلت الفساد المزمن والمتفشي من كل عقال وارتفعت معدلات العنف الذي درجت الشرطة والقضاء الفاسد على تأجيجه عوض مكافحته.
ولا شك في أن ما ينتظر الرئيس ماكري يليق بمجترحي المعجزات. وإفلاس الأرجنتين حافل بالعبر، أولها أن الشعبوية، والبيرونية هي أبرز نماذجها وخير مثال عليها، تؤدي لا محالة إلى إفقار الشعب وإطاحة دولة القانون. ثانياً، بعض الدول قد يسير القهقرى إذا عجز عن الإصلاح، فعلى سبيل المثل، هبطت الأرجنتين إلى المرتبة 24 في سلم الاقتصاد الدولي منذ 1945 بعد أن كانت في المرتبة العاشرة. ثالثاً، إفلاس الدول احتمال وارد. والأضرار الناجمة عن الإفلاس تعصف بالشعب وليس بالدائنين، وهذا ما أدركه، أخيراً، رئيس الوزراء اليوناني، ألكسيس تسيبراس. رابعاً، يبدو أن برازيل ديلما روسيف وقعت في أخطاء النهج الكيرشنري إذ زرعت دولة رعاية أوروبية الطراز في تربة اقتصاد نام غير متطور. خامساً، فرنسا هي أرجنتين أوروبا: انتهاج سياسة اقتصادية انتحارية. لذا تتجه إلى الإفلاس إذ تنفخ في الانكماش والبطالة والعجز التجاري البنيوي، وتجمع إلى هذه العوامل عجزاً عاماً متضخماً وديوناً سيادية ضخمة. وهي، يوماً بعد يوم، تقع في شباك الشعبوية التي لا تهدد فحسب بضمور تطورها، بل بإطاحة الديموقراطية. وفرنسا في انتظار منعطف ليبرالي. فالفرنسيون أدركوا أن الليبرالية هي دواء أفول بلادهم الناجع، ولكنهم يفتقرون إلى قائد ليبرالي النهج والمشروع.
نقلاً عن الحياة