لا تزال ذكرى توقيع اتفاق سايكس - بيكو فى 16 مايو عام 1916 حية فى الوعى العربى، ما أن يذكر حتى يقفز إلى الوعى العربى الكيفية والطريقة التى تم بها اقتسام المشرق العربى، بين فرنسا وإنجلترا من وراء ظهور الشعوب العربية وسياسيها، تلك الكيفية التى تنكرت لحق الشعوب العربية فى تقرير مصيرها وفقا للمبادئ المعلنة قبل توقيع الاتفاق ومع بداية الحرب العالمية الأولى، وانقطاع التواصل البشرى والجغرافى الذى كان قائما آنذاك، ولنا أن نتصور أنه لو بقى لبنان جزءا من سوريا لكان مقاتلو حزب الله مجرد مواطنين سوريين يؤيدون النظام والدولة وليس شيئا آخر كما يقال الآن.
لم يعرف العرب بهذا الاتفاق الذى سبقته اتفاقية القاهرة السرية بين جورج بيكو المندوب السامى الفرنسى، لمتابعة شئون الشرق الأدنى ومارك سايكس المندوب السامى البريطانى لشئون الشرق الأدنى ومندوب روسيا القيصرية، ثم انتقل هؤلاء الثلاثة إلى مدينة بطرسبورج الروسية وواصلوا مفاوضاتهم التى انتهت إلى توقيع هذه الاتفاقية الثلاثية، إلا بعد قيام الثورة البلشفية عام 1917 التى كشفت عن بنود هذا الاتفاق للرأى العام لكشف تواطؤ روسيا القيصرية مع الدول الاستعمارية.
بعد عدة أشهر أى فى 16 مايو عام 2016، تكتمل المائة عام على توقيع هذا الاتفاق، وهى ذكرى تحفل بالدلالات إذا ما قورنت بالحالة الراهنة لإقليم الشرق الأوسط والمشرق العربى، حيث أفضى هذا الاتفاق ورغم مساوئه من وجهة النظر العربية منظورا إليه فى السياق الذى وقع فيه والوصاية التى مارستها الدول الاستعمارية على شعوب المنطقة تلك الوصاية التى دفعت بانجلترا لإصدار وعد بلفور المشئوم فى 2 نوفمبر عام 1917 لإنشاء وطن قومى لليهود وفتح باب الهجرة إلى فلسطين، على مرئى ومسمع من العالم أجمع، رغم كل ذلك فإن النظر فى حصيلة سايكس بيكو مقارنة بالوضع الراهن تبدو لمصلحة هذا الاتفاق رغم طبيعته الاستعمارية، ذلك أن الاتفاق قد أفضى عمليا إلى قيام دول وطنية تزعم أنها حديثة وكرس ميلاد الدولة الوطنية بعد اشتداد عود الحركات الاستقلالية والتحررية العربية على غرار نمط دولة «ويستفاليا» باعتبارها وحدة القانون الدولى، كذلك ضمن الاتفاق الطبيعة المدنية للدولة الوليدة من زاوية حكم القانون والمبادئ، لم يستطع الاتفاق أن يعصف باللغة العربية التى تنطق بها شعوب المنطقة، بل ظلت لغة التواصل الرسمية والشعبية ولم يصادر العادات والتقاليد، ولا المصاهرات المتكررة ولا الموسيقى ولا الفن ولا الآداب المشتركة بين هذه الشعوب.
بالتأكيد لا تنخرط هذه المسائل باعتبارها إيجابيات فى طبيعة اتفاق سايكس بيكو باعتبارها طبيعة استعمارية استعلائية، ولا فى إطار الدعاوى المشبوهة حول «رد الاعتبار للاستعمار» أو فضائل الاستعمار، بل هى نتائج تنخرط فى إطار قابلية التخطيط والتدبير على التحول إلى عكس ما يريد واضعوه وصانعوه، إذ كثير ما يتم التخطيط لشىء ويسفر التطبيق عن شىء آخر معاكس جزئيا أو كليا لما خطط له، وفضلا عن ذلك فإن تحولات تطبيق الاتفاق فى الواقع كانت محصلة نضالات الحركات التحررية العربية والمناهضة للاستعمار وإصرار قادة هذه الحركات على التحرر من الاستعمار وطلب الاستقلال وانخراط الشعوب العربية فى زخم النضال الوطنى والقومى.
هكذا أفضى اتفاق سايكس بيكو إلى تدعيم ولادة الدولة الوطنية والقطرية العربية، تلك الدولة التى اعترف بها العالم وحصلت على عضوية الأمم المتحدة وجميع المنظمات الدولية والأممية، بل إن هذه الدولة الوطنية هى التى أسهمت فى إنشاء النظام العربى من خلال جامعة الدول العربية، وفى فترة المد القومى والتحررى فى عهد عبد الناصر استطاعت هذه الدول بقيادة مصر ودورها وريادتها أن تبلور التوجه العربى للنظام العربى وأن يكون الدور العربى فيه مؤثراً إقليمياً ودولياً.
فى الوقت الراهن ومنذ غزو العراق وبدء موجات الإرهاب المتعاقبة وأجياله المختلفة وظهور «داعش» وسيطرتها على جزء كبير من أراضى سوريا والعراق وتفاقم الأزمة السورية، يواجه المشرق العربى أزمة كبرى تكاد تعصف بالدول التى نشأت بموجب سايكس بيكو، وأصبحنا إزاء إقليم شرقى أوسطى أو عربى مشرقى جديد، يموج بالاضطراب وانهيار الحدود وانفجار الصراعات العرقية والطائفية فى موجات عنف غير مسبوق، عنف يعود إلى عصور الوحشية والهمجية، إقليم يفقد الاستقرار ويتعرض للتفتيت بروح ومنهجية دموية وطائفية ودينية ليس لها حدود.
فى هذه المنطقة التى كانت ساحة لتطبيق حصيلة سايكس بيكو، أصبح العنوان العريض لها انهيار الدولة الوطنية العربية، واستفحال آلية التفتيت والانقسام وظهور الإرهاب والجماعات الإرهابية وجماعات الإسلام السياسى كفاعل مؤثر فى الساحة الإقليمية بل والدولية، الطريق يكاد يكون مفتوحاً لشرق أوسط جديد يسبب تأثير النظام الدولى والصراعات الطائفية والقومية وظهور الإسلام السياسى والتفاعلات والصراعات بين المشروعات الإقليمية المختلفة فى مقدمتها المشروع الإيرانى والمشروع التركى والمشروع الإسرائيلى، فى حين غاب المشروع العربى الجامع فى انتظار عودة مصر لدورها الإقليمى والعربى.
لقد أطلق النظام الدولى فى ظل العولمة قوى خفية وظاهرة لا يمكن السيطرة عليها حتى من جانب الدول التى أنتجت العولمة، قوى تتلخص سياساتها فى الهوية والأصول وفق تصوراتها ونظراتها الأولية والبدائية دونما اعتبار للميراث الإنسانى المشترك والقواعد والمعايير الكونية، كرس النظام الدولى مفهوم إدارة الأزمات والمشكلات والحفاظ على الأوضاع القائمة فى فلسطين بالذات، وهو الأمر الذى يهيئ المناخ لظهور استقطابات جديدة وخطوط انقسام جديدة تهدد الاستقرار الإقليمى والدولى. وإذا كانت الدولة الوطنية فى المشرق العربى ضحية هذا المناخ الجديد فى المنطقة بتعرضها للانهيار والتآكل وانعدام الفاعلية، فإنه يمكن القول أيضاً أنها كانت ضمن الأسباب التى قادت إلى هذا المناخ، فهى لم تعرف كيف تدير التعدد والتنوع، ولم تدرك ضرورة تشكيل كتلة تاريخية مناهضة للعنف والتطرف، ولم تتمكن من توزيع الموارد بطريقة عادلة على ضوء معايير المواطنة والمساواة.
مكر التاريخ يضعنا فى موقف تضطرب فيه المواقف والمشاعر وتتراوح بين المراجعة والرفض والقبول لما كنا نرفض بالأمس رفضا قاطعا وباتا، هل ذلك مجرد مفارقة أم أنه أبعد من ذلك؟. نقلا عن الأهرام