المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ جلال أمين
د‏.‏ جلال أمين

المشــهد الثقافـى المصــرى فى العشــرين ســـنة الأخيـــرة

الإثنين 14/ديسمبر/2015 - 10:47 ص

ثلاث ظواهر مهمة حدثت فى مصر ابتداء من سبعينيات القرن الماضي، وكانت لها آثار عميقة على الحياة الثقافية، كان معظمها للأسف سلبيا (أو هكذا يبدو لي): الانفتاح والتضخم والهجرة، وقد أشرت فى مقالى السابق بهذه الجريدة (7/12) الى بعض هذه الآثار، وكانت هذه العوامل الثلاثة تشجع على إنتاج أنواع رديئة من الثقافة، وتزيد فى الوقت نفسه من أعداد المستعدين لاستهلاك هذه الأنواع، والردىء فى الثقافة، كما يقال عن العملة الرديئة، يطرد أيضا الثقافة الجيدة.

الانفتاح والتضخم والهجرة، كلها عوامل شجعت على انتشار قيم الشطارة والخفة وانتهاز الفرص، وهى قيم ليست من محاسن منتجى الثقافة ولا مستهلكيها، ولكنها أيضا تفت فى عضد من كان يأمل فى تحقيق نهضة عامة للأمة، ثقافية وغير ثقافية، ويبدو أن قوة الأمل فى تحقيق النهضة من العوامل التى تشجع على إنتاج ثقافة رفيعة.

قد يدعم هذا الرأى ما أدت إليه كل من ثورة 1919 وثورة 1952 من إحياء هذه الآمال، واقتران ذلك بازدهار الثقافة المصرية، إن الازدهار الثقافى الذى شهدته مصر فى فترة ما بين الحربين العالميتين، قد يرجع الى حد كبير الى ما ثار فى نفوس المصريين (منتجين ومستهلكين لها) من شعور عام، أن مصر مقبلة على تحقيق نهضة شاملة يقترن فيها الاستقلال السياسى باستقلال اقتصادي، وتظفر مصر بديمقراطية فى ظل دستور جديد، وحياة علمية وثقافية مزدهرة تدعمها مؤسسات جديدة، حكومية وشعبية.

لقد انتكست هذه الآمال بما طرأ من فساد على النظام الحزبى والملكي، ولكن ثارت الآمال بقوة من جديد فى تحقيق نهضة عامة بقيام ثورة 1952، مما أسهم فى ازدهار الثقافة فى الخمسينيات والستينيات، ثم انتكست هذه الآمال بدورها بهزيمة 1967.

استمر انتكاس الحياة الثقافية فى مصر خلال الثلاثين عاما التالية، مما أشرت إليه فى مقالى السابق الذى وصفت فيه المشهد الثقافى فيما أسميته الفترة الثالثة (75 ـ 1995) من تطور مصر الثقافى فى ثمانين عاما، ويمكن إطلاق الحكم نفسه على الفترة الرابعة والأخيرة (95 ـ 2015)، مع تحفظ بسيط يتعلق بالشهور الأولى التالية لثورة يناير 2011. كان المشهد الثقافى خلال النصف الثانى من عهد حسنى مبارك (95 ـ 2011) استمرارا كئيبا لما عهدناه فى نصفه الأول، فلا أذكر مثلا عملا موسيقيا أو غنائيا أو شعريا واحدا فتن به الناس فى تلك الفترة، كما فتنوا مثلا بأغانى عبدالحليم حافظ وألحانها الجميلة فى الفترة (55 ـ 1975)، أو بأشعار جاهين والأبنودى فى الفترة نفسها، بدأ الضعف يظهر أيضا على مجلاتنا الأدبية وعلى حركة النقد الأدبي، حيث زاد ميل النقاد للخضوع لاعتبارات مجاملة السلطة أو مجاملة المؤلفين أنفسهم، كما استمر تدهور اللغة المستخدمة، وزاد شيوع استخدام العامية والألفاظ الأجنبية مع تعمق الروح التجارية وسيطرة الإعلان والتسويق على وسائل الإعلام. ظهرت فى هذه الفترة بعض الأعمال الروائية والسينمائية والمسرحية الجميلة، التى استوحت أفكارها من مثالب عصر الانفتاح وآثاره السلبية على المجتمع، ومن أمثلة هذه الأعمال الجميلة روايات لبهاء طاهر وعلاء الأسوانى وأفلام يوسف شاهين ومدرسته فى السينما ومسرحيات مبهرة لشبان موهوبين قدموها فى عروض غير تجارية، ومن ثم لم يشاهدها كثيرون)، ولكن هذه الأعمال بدت كالنبت الشيطانى الذى يتحدى السياق العام، وكأنها نتيجة مواهب فردية ظهرت بتشجيع من المناخ الثقافى العام بل بالرغم منه.

من الظواهر التى تلخص ما طرأ من تدهور على المشهد الثقافى فى مصر بين ستينيات القرن الماضى والسنوات الأخيرة من عهد مبارك، ما لاحظناه من تغير فى معرض الكتاب الدولى السنوي، الذى عقد فى القاهرة لأول مرة فى 1969، واستمر سنة بعد أخرى حتى الآن.

بدأ المعرض بداية واعدة، وأقبل عليه المثقفون المصريون بلهفة، إذ وجدوا فيه فرصة للحصول (أو على الأقل للتعرف) على أحدث الإنتاج الثقافى فى العالم، فى فترة كانت الحكومة فيها تقيد استيراد كل شيء، بما فى ذلك الكتب، فكان المثقفون يصطفون فى المعرض فى طوابير طويلة بغرض حجز نسخ من كتب أجنبية اكتشفوا صدورها، وتسامحت الحكومة أخيرا فى تدبير العملة الأجنبية اللازمة لاستيرادها.

بدأ معرض الكتاب أيضا سنة جديدة هى عقد ندوات ثقافية وسياسية اشترك فيها فى السنوات الأولى بعض كبار المثقفين المصريين، وجاء الآلاف من المدن الإقليمية خصيصا للاستماع إليهم، وشرع المعرض أيضا فى منح جوائز لما اعتبر أفضل الكتب الصادرة خلال العام، وتنافس الناشرون فى الحصول عليها، كما بدأ رئيس الجمهورية إعادة افتتاح المعرض بنفسه فى كل عام، بلقاء مع الكتاب وأصحاب الرأى لمناقشة آخر مشكلات السياسة والثقافة. مع مرور السنوات على بداية المعرض، حتى قارب عمره نصف قرن، أصاب المعرض ما أصاب الحياة الثقافية كلها، حتى أصبح ما يشاهده زائر المعرض فيه ملخصا جيدا للتحولات التى طرأت على المجتمع المصرى بأسره، لم تعد مشكلة المثقفين ندرة العملات الأجنبية المتاحة لاستيراد الكتب، بل أنواع الكتب المعروضة، المستوردة والمحلية على السواء. أصبحت أكثر الكتب حظا من إقبال الناس، هى الكتب السلفية من ناحية، وكتب تعليم اللغة الانجليزية والكمبيوتر من ناحية أخرى، مما يوحى بوجود علاقة بين شدة الاقبال على هذه وتلك، وزاد أيضا المعروض من مختلف المأكولات والمشروبات، وعلا صوت الميكروفونات التى تعلن عن الندوات وعن المأكولات، حتى أصبح من المتعذر على الحاضرين الاستماع الى ما يجرى فى الندوات، متابعة ما يقال وسط الضجيج الساىء، أما الجوائز فأصبح أصحاب الحظ الأكبر فيها هم الصحفيين المقربين من السلطة، يحصلون عليها عن كتب كان من المشكوك فيه أصلا أنهم قاموا بكتابتها بأنفسهم، مع تمرير كتاب أو كتابين يستحقان الجائزة للتغطية على ذهاب معظم الجوائز لمن لا يستحقونها، وأما لقاء الرئيس بالمثقفين فقد ازداد خضوعه لرقابة المسئولين عن المعرض، فجرى اختيار المدعوين من الكتاب والمثقفين بحرص بالغ، وروقبت الأسئلة قبل إلقائها، وتحول اللقاء الى تمثيلية يتاح فيها للرئيس إلقاء خطبة سياسية تضاف الى ما يلقيه فى مناسبات أخري، تليها تعليقات مديح وثناء من جانب بعض المثقفين المحظوظين، ومع انخفاض شعبية الرئيس، بدأ يتكرر اعتذار الرئيس عن افتتاح المعرض وعن لقاء المثقفين حتى توقف هذا اللقاء تماما.

فى الشهور التالية لثورة 25 يناير 2011 (أم هى فقط أسابيع؟) بدا وكأن عودة الأمل من جديد فى تحقيق المصريين لنهضة حقيقية فى مختلف نواحى الحياة، بسبب قيام هذه الثورة ونجاحها فى عزل رئيس الجمهورية من منصبه، قد أدت الى تدفق الدماء من جديد فى العروق، مما كان يبشر ببعث الحياة من جديد فى الثقافة المصرية.

فى الوقت الذى رأينا فيه بعض الشباب المصري، ذكورا وإناثا، يعيدون طلاء الأرصفة فى بعض الشوارع والميادين الرئيسية، (وكأنهم يعلنون عن حدوث صحوة مصرية)، رأينا آخرين يقومون برسم رسوم جديدة على الحوائط، ويغنون فى الميادين أغانى جميلة وإن كانت من نمط غير معهود، زاد الاقبال أيضا بدرجة غير معهودة على قراءة الصحف ومتابعة الحوارات التليفزيونية، وزاد اقبال أصحاب الرأى على المشاركة فيها، ظهرت أيضا كتب كثيرة تسجل أحداث الثورة يوما بيوم، وترصد ما جرى فى الميادين من ظواهر خلابة تعبر عن تآخى المسلمين والأقباط، واحترام الذكور للاناث، وظهرت أفلام قصيرة بالغة الجمال بصورها وموسيقاها، تدعو المصريين للاشتراك فى الاستفتاءات..الخ. ولكن كل هذا لم يدم طويلا، فقد أصيبت الثقافة، كما أصيبت السياسة والاقتصاد، بنكسة شديدة، فانخفض فجأة الإقبال على متابعة وسائل الإعلام، وخلت المكتبات من الزوار، بينما علت أصوات رافعى الشعارات التى تفرق بين الأديان بدلا من التقريب بينها، وانصرف واحد بعد آخر من أفضل كتابنا وفنانينا وصحفيينا عن الكتابة والإنتاج، فاعتكف بعضهم، وسافر آخرون للبحث عن عمل خارج مصر، وفضل من بقى منهم فى مصر أن يكتبوا فى موضوعات بعيدة عما يحدث فى الواقع. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟