المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

التوافق الصعب: الأزمة الليبية ما بين اتفاقي تونس والصخيرات

الأحد 27/ديسمبر/2015 - 12:02 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
أحمد موسى بدوي - صفوان الطرابلسي
سقط القذافي، ومعه سقطت مؤسسات الدولة في ليبيا، وتوغلت الأطراف الخارجية في الشأن الليبي، كل منها يدعم طرفا، فكان حتميا فشل مسار التحول الديمقراطي، وكذلك محاولات فرض الأمر الواقع بالقوة، ما دفع الأطراف الليبية إلى التفاوض، ودارت رحى المفاوضات برعاية أممية لأكثر من عام ونصف، بين كيانين كبيرين: المؤتمر الوطني المنتهية ولايته، والبرلمان الليبي. وفجأة أصبح لدينا اتفاقان (تونس والصخيرات). ليكتشف العالم انقسامًا حادا داخل كل من المؤتمر الوطني ونظيره البرلمان الليبي، ويحاول الكاتبان في هذا المقال، التعرف على مضمون الاتفاقين، ومبررات الصراع الداخلي ونتائجه المحتملة على مستقبل ليبيا.
لاحت في الأفق منذرات باستحالة اتمام مسار التحول الديمقراطي في ليبيا، بسبب تربص الفصائل ببعضها بعضًا، على أرضية صراع القوة العسكرية وليس في إطار عملية تحول سياسية
أولا: الفاعلون بالداخل الليبي بعد غياب الدولة
ارتكبت القوى الدولية جريمة في حق الشعب الليبي، حين تدخلت فقط لتفكيك قوة القذافي، فدمرت مؤسسات الدولة، ثم تركت كل فصيل، يدبر أموره في المنطقة التي استحوذ عليها يوم سقوط القذافي. ولم يمض وقت طويل حتى لاحت في الأفق منذرات باستحالة اتمام مسار التحول الديمقراطي، بسبب تربص الفصائل ببعضها بعضًا، على أرضية صراع القوة العسكرية وليس في إطار عملية تحول سياسية.
ومع مضي العملية السياسية المُعْوَجَّة، أصبحت لدينا الآن أربعة كيانات كبيرة على الأرض، ثلاثة منها تملك الحلول السياسية: (1) المؤتمر الوطني العام، الذي انتخب في عام 2012، لمدة عامين، وانتهت ولايته القانونية وبقيت ولايته الفعلية ممتدة من طرابلس إلى الحدود الغربية.(2) البرلمان الليبي، الذي انتخب في عام 2014، وحكمت المحكمة الدستورية بحله، وبقيت ولايته المعترف بها ممتدة في الشرق وبعض الجنوب الليبي. (3) وبين المؤسستين، يوجد المؤتمر العام للقبائل والمدن الليبية: الذي يتبنى موقفًا مختلفًا من الثورة، ومن الصراع الدائر، حيث يرفض بشدة قوانين العزل السياسي، ويطالب بحلول ليبية بمرجعية العرف القبلي، بعيدا عن الأجندات الاقليمية والدولية.(4) وتتمثل القوة الرابعة في الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش، وبطبيعة الحال فإن هذه الجماعات خارج العملية السياسية، تسلط سيوفها على رقاب الجميع، وتنتظر فشل كل الجهود.

ثانيا: الفاعلون الإقليميون والدوليون
هو مشهد مربك بالتأكيد، زاد في تعقيده اندماج عدد من الجماعات الإرهابية المتطرفة في تنظيم داعش، ما سمح بتمدد هذا الكيان السرطاني بطول حوض سرت النفطي، وتحول الشواطئ الليبية إلى فوهة بركان ترمي بحمم الهجرات غير الشرعية من العرب والأفارقة على شواطئ أوربا الجنوبية، وارتفاع معدلات الجرائم الوحشية، واحتمال توطن الجماعات الإرهابية من كل بلدان العالم في الفضاء الليبي الشاسع، ما يجلب الضرر البالغ لأوربا وأفريقيا والشرق الأوسط، على معنى أن الحالة الليبية أصبحت مؤهلة لكي تكون من أكثر مناطق العالم تهديدا للسلام والأمن الدوليين.
وعليه فإن لدينا ثلاثة مسارات تديرها أطراف خارجية فاعلة في المسألة الليبية، ليس من بينها جامعة الدول العربية التي اكتفت بمنح مباركتها لتدخل الناتو في ليبيا ثم غطت في سبات عميق: (1) الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي، وكلاهما يديران عملية التفاوض الأساسية بين الفرقاء، ومن هذا المسار خرج اتفاق الصخيرات الأخير. (2) دول الجوار (منفردة) حيث تسعى دول الجوار، خاصة (مصر، تونس، الجزائر) كل على حدة، رعاية مفاوضات جانبية بين أطراف ترى من وجهة نظرها أنها يمكن أن تسهم في حلحلة الأزمة، ومن هذا المسار خرج اتفاق تونس الأخير، وتوّج باجتماع مالطا بين عقيلة صالح رئيس البرلمان، ونوري أبوسهمين رئيس المؤتمر الوطني. (3) مجموعة دول الجوار، يمثلها وزراء خارجية دول الجوار الليبي، اجتمعت أكثر من مرة، غير أنها ككيان لا تملك وسائل التغيير والحل، لاختلاف الرؤى من الأزمة، وبسبب سيطرة الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي على المسار منذ بداية التدخل العسكري، وبعد فشل العملية السياسية، لم يكن لمجموعة دول الجوار (مجتمعة) أدوار تذكر، في الأوقات الحاسمة من تحولات الأزمة الليبية.

زاد في تعقيد الأزمة الليبية اندماج عدد من الجماعات الإرهابية المتطرفة في تنظيم داعش، ما سمح بتمدد هذا الكيان السرطاني بطول حوض سرت النفطي
ثالثا: مسار الحل الأممي للأزمة الليبية
 انطلق هذا المسار منذ 14 شهرًا تقريبا، تحت إشراف الأمم المتحدة، التي أوفدت مبعوثها الأممي برناردينو ليون، ويبدو أن الرجل لم يكن لديه تصور دقيق عن الأوضاع الليبية، منطلقًا من رؤية تتسم بعدم المرونة، كما يرى بعض المحللين، بسبب  تجاهله لدور القبائل الليبية، وتحفظه المستمر على دور اللواء خليفة حفتر، دون أن يقابل هذا التحفظ موقف مشابه من ميليشيات فجر ليبيا، وإصراره على إضافة بنود للاتفاق رغم اعتراض كل الأطراف الليبية عليها، وبالجملة، فإن ليون حين أعلن صياغة الاتفاق النهائي، وحدد السقف الزمني للتوقيع، رفض المؤتمر الوطني التوقيع، ما اضطر ليون إلى تقديم استقالته، لينوبه فيما بعد مارتن كوبلر.
وفي ظل المستجدات في منطقة الشرق الأوسط، وبتأثير من الأزمة السورية وأزمة الهجرة غير الشرعية، وكذلك تمدد تنظيم داعش وأنصار الشريعة في ليبيا، والأحداث الإرهابية التي شهدتها باريس، وإصدار بيان اتفاق المبادئ في تونس، كل هذه العوامل، دفعت القوى الدولية وعلى رأسها فرنسا وإيطاليا إلى الضغط على الأطراف، والتلويح بفرض العقوبات على المعرقلين، ما أسهم بشكل كبير في التوقيع على الاتفاق يوم الخميس 17 ديسمبر2015 في الصخيرات. ثم أصدر مجلس الأمن قرارا بالإجماع في 23 ديسمبر، يدعم فيه الاتفاق.
مبادئ اتفاق الصخيرات، تمكن الأطراف المتصارعة من المشاركة في مستقبل ليبيا على نحو شبه متوازن، حيث تتقاسم السلطة ثلاث مؤسسات دولة رئيسية، كما يلي: (1) البرلمان الليبي (برلمان طبرق) هو ممثل السلطة التشريعية في المرحلة الانتقالية التي تستمر لمدة عامين. (2) المجلس الأعلى للدولة، ويتشكل من أعضاء المؤتمر الوطني، وهو مجلس استشاري للحكومة. (3) المجلس الرئاسي يضم ستة أعضاء يمثلون أقاليم ليبيا، برئاسة فايز السراج، الذي سيتولى رئاسة حكومة الوحدة الوطنية، ومعه نائبان ممثلان عن المؤتمر الوطني والبرلمان.

رابعا: مسار تونس- مالطا
في إطار سعي أوربا إلى إتمام الاتفاق الليبي، عقدت ايطاليا اجتماعا دوليا في العاصمة روما يجمع كل القوى الدولية والإقليمية لبحث الأزمة الليبية، وذلك في يوم 13 ديسمبر بهدف التعجيل بالوصول إلى تسوية سياسية بين الفصائل المتنازعة، وقبيل الاجتماع تفاجأ الجميع بإعلان الأطراف المتنازعة عن توصلهم إلى اتفاق ناجم عن حوار سرّي كانت قد استضافته ضاحية قمرت بالعاصمة التونسية قبل أيام من لقاء روما، وأسفر عن اتفاق وقع عليه كل من عوض عبد الصادق عن المؤتمر الوطني وإبراهيم عميش عن برلمان طبرق، مؤكّدين أن بنوده لن تكون سارية المفعول سوى بعد المصادقة عليه من قبل الهيكلين الأصليين في ليبيا وينص اتفاق المبادئ على:
(1) العودة إلى الشرعية الدستورية المتمثلة في الدستور الليبي السابق (دستور الملكية). (2) تهيئة المناخ لإجراء انتخابات تشريعية في مدة أقصاها عامين. (3) تشكيل لجنة من عشرة أعضاء تتولى العمل على المساعدة في اختيار حكومة وفاق وطني ونائبين لرئيس الحكومة خلال أسبوعين. (4) تشكيل لجنة تتولى تنقيح الدستور.
ويبدو من هذه البنود المبدئية، أن الاتفاق يحتاج إلى جهود تفاوضية كبيرة حتى يمكن إبرامه في صورة نهائية، لأن فكرة العودة إلى الملكية الدستورية، سوف تُوَاجَهُ بمعارضة كبيرة داخل المجتمع الليبي. وسبق أن رفضها الشباب الليبي وخرج ضدها في مظاهرات عارمة في أعقاب الثورة، كما أنها فكرة تعيد للأذهان السيناريوهات الكولونيالية القديمة بتقسيم ليبيا إلى أقاليم. ويبدو كذلك أن  لقاء مالطا الذي جمع لأول مرة  بين رئيس البرلمان والمؤتمر الوطني، لمباركة اتفاق تونس، ما هو إلا مناورة سياسية تستهدف تعطيل عملية التفاوض الجارية في الصخيرات منذ أكثر من عام، والحيلولة دون توقيع الأطراف على الاتفاق، وتأكيدًا على رغبة التعطيل هذه، أعلن صالح وأبو سهمين حجب صلاحية ممثليهما في المفاوضات التي تشرف عليها الأمم المتحدة في الصخيرات.

مبادئ اتفاق الصخيرات، تمكن الأطراف المتصارعة من المشاركة في مستقبل ليبيا على نحو شبه متوازن، حيث تتقاسم السلطة ثلاث مؤسسات دولة رئيسية
خامسا: ماذا بعد الاتفاقين
بعد إتمام اتفاق المبادئ في تونس، ثم اتفاق الصخيرات تبادل الجميع الاتهامات، فالمعترضون على اتفاق تونس ـ مالطا، من كلا الجانبين، يذهبان إلى أن هذا الاتفاق ينسف كل الجهود، ويعود بالمفاوضات لنقطة الصفر من جديد، والوضع الليبي لا يتحمل هذا المسار التفاوضي. وتتمثل  حجج المعترضين على اتفاق الصخيرات في أنه لا يمثل جديدا ولا يختلف عن الصياغة التي وضعها ليون من قبل ورفضها المؤتمر الوطني. كما أن عددا من أعضاء برلمان طبرق المؤيدين لصالح، يرفضون الاتفاق، على أساس أنه لم يحدد وضع قائد الجيش الليبي اللواء خليفة حفتر، ولا دوره في المرحلة القادمة. وكلا الطرفين يرفض أحد بنود الاتفاق التي تتيح التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا بعد موافقة الحكومة. ولديهما تحفظات كبيرة على شخصية فايز السراج، ويشبهون دوره بدور أحمد جلبي في العراق.
هناك خطورة في استمرار المسارين معا، لأنه يعني بحسب بنود الاتفاقين، ظهور حكومتين، ويدور الجميع في ذات الحلقة المفرغة. لذلك فإن الجهود الدولية الحالية تنصب في حث جميع الأطراف على الانخراط في مسار الصخيرات. وتجري حاليا مفاوضات مكثفة وسرية برعاية سلطنة عمان بين رئيسي البرلمان والمؤتمر الوطني، تستهدف تعديل موقف صالح وأبو سهمين من اتفاق الصخيرات، لتوحيد الصفوف والجهود.
وفي هذا السياق يحسب للقبيلة الليبية، مواقفها الواعية، فقد عقد المجلس الأعلى للمدن والقبائل الليبيّة يوم الإثنين 21 ديسمبر ندوة في تونس أعرب فيها عن دعمه لمسار المصالحة الذي ترعاه الأمم المتحدة لكنه في نفس الوقت طالب بتفعيل العفو التشريعي العام وإطلاق سراح الأسرى المحسوبين على نظام القذافي وإيقاف الملاحقات في حق الليبيين المهجّرين بالخارج، وإلغاء أحكام الإعدام الصادرة في حق العديد من الليبيين على خلفية الخلافات السياسية. هذه القبائل المجتمعة في تونس لها وزنها أيضا على المستوى الميداني، كما ذكرنا في بداية المقال، وأغلبها ليس ممثلا في الهياكل التي تتفاوض سواء في مسار تونس ـ مالطا أو في مسار الصخيرات، بحكم أن هذه القبائل وقيادتها محسوبون على نظام معمر القذافي. هذه القوى وغيرها من القوى ذات النفوذ المحلي قد تكون قادرة على تعطيل المجهودات الرامية إلى الخروج من الأزمة إذا لم يتم مراعاة مصالحها والتطرق إلى مطالبها، فعزلها عن المسار التفاوضي قد يؤدّي إلى إعادة إنتاج أزمة جديدة داخل الأزمة الحاليّة، وربما يتمكن رئيس حكومة الوحدة الوطنية من معالجة هذه المشكلة، بإشراك مجلس القبائل، بصورة ما في دائرة صنع القرار.
على أية حال، فإن هذه الانقسامات والمواقف المتباينة، تثبت أن تركيبة كل من طرفي النزاع في ليبيا، تفتقد التجانس، وأنهما بالأساس تجمّعان لقوى مختلفة فيما بينها، هيكليا وإيديولوجيا وسياسيا. ويبدو أن التزامن في إعلان المواقف، أدخل ليبيا في أجواء مرحلة مكاشفة جديدة. ومع ذلك فإننا نذهب إلى أن مسار اتفاق الصخيرات، بعد التوقيع عليه ودعم مجلس الأمن له، هو المسار الذي سيحدد ملامح المستقبل الليبي، ونتوقع أن تنجح المفاوضات السرية التي تجري في سلطنة عمان في تعديل مواقف صالح وأبو سهمين ومن معهما، لتبدأ معركة استعادة الدولة في ليبيا والتي نأمل أن تكون في الاتجاه الديمقراطي الصحيح.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟