علينا أن نؤكد أن مصر لن تدّخر جهداً أبدا فى الحفاظ على الأمن القومى المائى لمصر، وهذا سيكون بالعلم والقانون و الرؤى السديدة، وليس بالجعجعة الجوفاء، أو المزاعم المغرضة, التى تضر ولا تنفع ، و تشتت و لا توحد . لذا فسأحاول مقتضبا أن ألقى نظرة على القواعد العامة للاستخدامات غير الملاحية للمجارى الدوليّة, ثم أتناول النزاع القانونى الحاصل بين مصر وأثيوبيا والسودان .
الحقيقة أن المجتمع الدولى وصل مبكراً لاتفاقية شارعة تنظم الاستخدامات الملاحيّة للمجارى الدولية عام 1921 وهى اتفاقية برشلونة, وهذه الأحكام لن تهمّنا لأن نهر النيل ولأسباب طبيعية ولكثرة مافيه من جنادل وشلالات, غير صالح للملاحة الدولية. وإذا كان المجتمع الدولى توصل مبكراً لإطار قانونى لتنظيم الاستخدامات الملاحية للمجارى الدولية, فالحقيقة أنّه تأخّر كثيراً لصياغة اتفاقية دولية شارعة لتنظيم الاستخدامات غير الملاحية للمجارى الدولية, حيث توصل عام 1997 لهذه الاتفاقية الإطارية والتى ظلّت لجنة القانون الدولى تعمل على انجازها لمدة ربع قرن . السؤال هنا, علام بنيت فلسفة اتفاقية 1997؟ أولاً, عليّ أوضح أن هذه الاتفاقية إطارية وهذا تم الإشارة إليه فى ديباجتها, والإتفاق الإطارى يعنى أنه جاء لوضع الخطوط العامة والتى ستسترشد الدول بها عند صياغة الاتفاقات الخاصة التى تنظم تلك المسألة.
إن هذه الاتفاقية ارتكزت على دعامتين:- المبدأ الأول: الاستخدام المنصف والمعقول, فكل دولة الحق فى الاستخدام المنصف والمعقول لذلك الجزء الذى يمر بإقليمها من المجرى المائى الدولي. وهناك عدة عوامل تحدد ماهية الاستخدام المنصف والمعقول أوضحتها المادة السادسة من الاتفاقية.
المبدأ الثاني, هو ألا يتمخّض عن الاستخدام ضرر ذو شأن للدول الأخرى وهذا للقاعدة الراسخة فى العرف الدولي. ودعونى أجزم أن هذه الاتفاقية كانت انتصاراً قانونياً للمفاوض المصري, وكل من يقول عكس ذلك لم يدرك قيمتها وفحواها لعلة واحدة وهى أنه لم يكلّف نفسه الطاقة حتى ليقرأها.
المسألة الرئيسية التى تستحق التوضيح هى أن اتفاقية إعلان المباديء هى اتفاقية دولية بقضها وقضيضها ومن قال غير ذلك, لايفقه معنى الاتفاق الدولى والذى عرّفته المادة الثانية من اتفاقية فيينا 1969 ميثاق المعاهدات كما يحلو لأستاذنا الدكتور على صادق أبو هيف أن ينعته, فقد نصت المادة الثانية أن الإتفاقية الدولية هى إتفاق يعقد بين دولتين أو أكثر، هذ الإتفاق يعقد كتابة لتنظيم مسألة من مسائل القانون الدولي, ويخضع لأحكام القانون الدولي, ويرتب أثاراً قانونية لمواجهة الاطراف بغض النظر عن تسميته. وبالنظر لكونها اتفاقية دولية, فإن كافة الأطراف ملتزمون بها إعمالاً بقاعدة المتعاقد عبد لتعاقده , وتنطبق عليها كافة قواعد قانون المعاهدات الذى قننته اتفاقية فيينا المشار إليها. ولاشك أن هذه الاتفاقية إن التزمت أثيوبيا بها ستكون الدرع الحامية للمصالح المصرية ولكن يبدو أمامنا أن الجانب الأثيوبى دخل إلى خضم المفاوضات الأخيرة وكل تفكيره كيف يعرقل, فى حين أن الجانب المصرى ولج إليها وكل تفكيره كيف يتعاون ويصنع ويبنى مستقبلا جديدا لدول حوض النيل الشرقى كافة.
يعيب البعض على الاتفاقية, تضمينها لوسائل تسوية المنازعات الناتجة عن تفسير أو تنفيذ الاتفاقية, وكلها وسائل دبلوماسية غير الزامية ، فلقد نص البند العاشر على أنه فى حالة النزاع حول تفسير أو تنفيذ أى نص يتم اللجوء إلى التفاوض وإذا لم يتم التوصل إلى حل يتم اللجوء إلى التوفيق أو إلى الوساطة أو رفع الأمر لعناية رؤساء الدول الثلاث. ما من شك أن ما ينجم عن الوسيط أو ما يصدر عن لجنة التوفيق أو التحقيق ، هو محض توصيات لها قيمة أدبية ولا تتمتع بالإلزامية القانونية, وهذه فى نظر البعض الثغرة الأكبر فى بنيان الإتفاقية, بيد أن الجميع أغفل أنه إذا كان القضاء الدولى بشقيه المحاكم أو التحكيم يعد الوسيلة الإلزامية على الدول فى مجال تسوية نزاعاتها, بيد أن الحقيقة المجردة الراسخة بأن سرعة البناء لذلك المشروع الضخم هى أسبق فى كل الأحوال من سرعة إجراءات اللجوء إلى التحكيم أو القضاء, وهذه الحقيقة القانونية والمادية أيضا أغفلها كل المنتقدين للإتفاقية دون استثناء وبمختلف مشاربهم وحقولهم. وأنتقل لتفنيد بعض الأباطيل التى تم تداولها من بعض الأشخاص فى الأيام الماضية :
أولا : الحديث عن أن اتفاقية إعلان المبادىء ليست اتفاقية دولية ملزمة ، هذا الزعم قمنا بدحضه فى متن المقال، و نحيل الجميع على نص ديباجة الاتفاقية محل الاتهام بل التجريم من بعض غير المتخصصين .
ثانيا: بعض المنتقدين زعموا بضرورة عرض هذا النزاع على محكمة العدل الدولية, وهذا قول يندرج تحت مظلة الترهات, فالقضاء الدولى لا ينعقد اختصاصه إلا باتفاق الأطراف. ثالثا: الزعم بأن البرلمان المصرى عليه أن يرفض التصديق على الإتفاقية, هذا القول يعوزه الدقة القانونية و الدستورية , فأولاً, لايجوز للدولة أن تتمسّك بقوانينها الداخليّة ومنها بالطبع الدستور - للتّنصل من التزمات موجودة على عاتقها بموجب القانون الدولي، ويذخر كل من القضاء والتحكيم الدوليين بالعديد من الأحكام التى أكدت ذلك المبدأ الراسخ.
إن الدستور المصرى لم يجعل التصديق على المعاهدات من مهمة مجلس النواب, بل جعله من مهمّة الرئيس بعد مراجعة البرلمان, ثالثا, أن الاتفاقية أحد أنواع التعاهدات الدولية مبسطة الشكل فورية النفاذ ، حيث لم تكشف نصوص الاتفاقية الى اشارة صريحة أو ضمنية بضرورة تصديق البرلمانات للدول الأطراف حتى تدخل الاتفاقية حيز النفاذ ، وهذه يمكن استبانته ايضا من الأعمال التحضيرية قبل توقيع الاتفاقية من أرفع ممثلى الدولة ، و الذين لا يوقعون فى غالب الممارسات الدولية على الاتفاقيات الدولية بل المعاهدات الدولية. نقلا عن الأهرام