لم
تعد مشكلة أي سياسي أو صحافي معارض في تركيا أن يجد وسيلة إعلام تنشر ما يقوله من
تصريحات أو أفكار أو انتقادات. فالمشكلة اليوم هي العثور على منبر يصحح فيه ما
تنسب إليه الحكومة وإعلامها الموالي، من تصريحات لم يقلها أساساً. وغلب على 2014
شراء الحكومة أكبر عدد من وسائل الإعلام عبر رجال أعمال موالين لها مقابل منحهم
صفقات ومناقصات دسمة تغطي الخسائر الناجمة عن شراء تلك الصحف أو القنوات الفضائية
وطرد العاملين فيها، واختيار كفاءات لا تجيد غير إظهار الولاء التام للحكومة والرئيس
رجب طيب أردوغان. وشهد العام ذاته، إنشاء جيش إلكتروني موال للرئيس مباشرة يتولى
الهجوم بلا رحمة أو أخلاق على كل معارض أو مناكف. وفي 2015، وبعد تطويع وسائل
الإعلام بالشراء أو التهديد، سُلِّط سيف القضاء على الصحافة. ورفع الرئيس عشرات
القضايا على صحافيين بتهمة السب والقذف، وادعت الحكومة على آخرين بتهمة «التجسس
ونشر أسرار الدولة». وتوسل بالاعتداء المباشر (استئجار قوة «عمل» بلطجية والضرب)،
إلى قمع الصحافيين، كما حدث مع الصحافي أحمد هاكان الذي هدده «زملاء المهنة» من
فريق الحكومة بالقتل علناً. وطاول هجوم بالحجارة والعصي مبنى صحيفة «حرييات»،
وكانت المكافأة في انتظار قائد الهجوم. فعينته قيادات حزب «العدالة والتنمية»
مساعداً لوزير الرياضة، عوض إحالته على القضاء.
صار
القضاء الذراع الضاربة «لتأديب» الصحافيين ومعاقبتهم. فبعدما توعَّد الرئيس
أردوغان رئيس تحرير صحيفة «جمهورييت» المعارضة بالانتقام، إثر نشر صور الأسلحة
التي كانت الاستخبارات تهرّبها إلى المسلحين السوريين، بادر القضاء بالادعاء على
جان دوندار وزميله مدير تحرير الصحيفة بتهمة التجسس وكشف أسرار الدولة، وأمر
بسجنهما قبل أن تبدأ المحاكمة. وأفرجت السلطات القضائية عن البلطجية الأربعة الذين
اعتُقِلوا متلبّسين واعترفوا بضرب الصحافي أحمد هاكان، وقالوا أن رجل أمن متقاعداً
هو الذي استأجرهم لحساب «سلطات عليا» في الحكومة.
في
2015، استسلمت آخر مجموعة إعلامية مناكفة للحكومة، بعد الانتخابات الأخيرة. إذ
هادن أيضن دوغان، رئيس مجموعة دوغان صاحبة صحيفة «حرييات» وقناة «سي أن أن»
التركية، أردوغان عبر تعيين مدير جديد للمجموعة ورئيس تحرير جديد للقناة، كلاهما
مقرب من الرئيس. وصار نحو 90 في المئة من الإعلام المكتوب والمرئي يعمل لحساب
الحكومة وأردوغان، على اختلاف مستويات الولاء.
لكن
أهم وأخطر ما يميز السنة هو ما حصل مع النائب المعارض، أران أردام، من حزب الشعب
الجمهوري. فهو أدلى بتصريح من على قناة «روسيا اليوم» بالانكليزية، تناول قضية
إلقاء القبض على خلية تساعد «داعش» في تهريب مواد كيماوية سامة تستخدم في غاز
الخردل في أضنة عام 2013. وعلى رغم أن النائب رفض تسليم ملف القضية إلى القناة،
باعتباره سر دولة لا يمكنه التفريط به، وعلى رغم أنه تحدّث عن تهريب «داعش» لهذه
المواد من أوروبا عبر تركيا إلى سورية، إلا أن الرئيس أردوغان ورئيس وزرائه
والإعلام الموالي أصرّوا على أن النائب قال «إن الحكومة التركية هي التي تزود داعش
غاز السارين». وهذه العبارة لن يجدها أحد لا في المقابلة المترجمة والمنشورة على
يوتيوب ولا في التسجيل التركي الأصلي الذي أذاعه النائب. وبما أن الأخير لم يجد
مَنْ يذيع التسجيل الأصلي، واكتفى معظم القنوات والصحف بترديد اتهامات أردوغان
وداود أوغلو، برز رأي عام شعبي مناوئ له، وادعى المدعي العام عليه بتهمة الخيانة
العظمى وطالب بإسقاط الحصانة عنه. فلم تعد ترتجى فائدة من محاولات الرجل توضيح
التزييف والتحريف.
وعاد،
في العام المشارف على الانتهاء، نموذج الصحافي الاستخباراتي الذي يهدد ويتوعد
ويكشف معلومات باسم الاستخبارات والقصر الرئاسي. ويؤدي هذا الدور صحافي يزور رئيس
الاستخبارات ويتباهى بصداقته ويهدد الصحافيين المعارضين بالقتل، على صفحات الجرائد
أو القنوات الفضائية، ويطالب أصحاب الصحف والقنوات بطرد فلان وفلان... والويل لمن
يتأخر في تنفيذ أوامره أو الاستهانة بتهديداته. فهو من هدد أحمد هاكان قبل أن
يتعرض للضرب، وهدد «حرييات» قبل أن يهاجمها البلطجية، وطالبَ أيضن دوغان بتغيير
رئيس تحرير «سي أن أن»، وكشف ما لا يعرفه غيره من أسرار من دون أن يحاسبه أو
يحاكمه أحد. وهو يمثل نموذجاً من الصحافة كان شائعاً في ثمانينات وتسعينات القرن
العشرين في صفوف مَنْ عرفوا بصحافيي الجيش والاستخبارات. ثم اندثر هذا النموذج،
وها قد عاد اليوم، في مؤشر إلى نوع الحقبة السياسية التي تمر بها تركيا.
نقلاً
عن الحياة