من الظواهر المثيرة للانتباه وللأسف فى آن واحد أن قضية الثقافة العلمية ، دورها وضرورتها، تشهد تهميشاً وتضاؤلاً فى حياتنا الثقافية ، بشكل لا يتناسب مع تكاثر المؤسسات التعليمية والعلمية، وفيضان المنابر الإعلامية. حتى أحاديث النخبة التى لا ندرى من نخب الكثير من ممثليها كما يقول شيخنا حامد عمار رحمه الله، تتجاهل العلم كأحد المحاور الرئيسية التابعة لهذا التنوير. الثقافة عند أغلبهم لاتستدعى موضوع التنوير كما حدث فى الغرب فى صحبة الثورة العلمية ، والبعض يريده أن يبزغ عندنا «بصورة بلاغية» ، باعتبار أن هنالك من يرى أننا «ظاهرة صوتية».
دعونا لا نستطرد فى نقد النخبة ، ونركز على نقد الذات بالمعنى الثقافى / المجتمعى للعبارة ، ونتساءل : ما هى الصورة الذهنية للعلم فى ثقافتنا المجتمعية المصرية / العربية، كيف تم تشكيلها أو تشويهها؟ هذا سؤال محورى فى موضوعنا:
لا أوافق على أن ثقافتنا كارهة للعلم ، من الثابت «حضارياً» غير ذلك تماماً. لكن الخلط المفاهيمى للمصطلح بمعناه الواسع، الذى يتضمن العلوم الدينية، ومعناه المحدد(Science) الذى تكرس فى الحضارة الغربية فى القرون الأخيرة، أدى إلى موقفين غير علميين أو موضوعيين. أحدهما يفتعل التناقض بين الدين والعلم ، والآخر يفتعل التوفيق عن طريق ما يسمى بالإعجاز العلمى (بضاعتنا ردت الينا). وكلاهما يضر بالدين والعلم معاً، ويتغاضى عن اختلاف المنهج والمضمون شديدى الاحترام.
فى مقابل ذلك ، نرى بعض من ينتصرون للعلم يبالغون فى تصوير قدراته غير المحدودة، ويمثلون الاتجاه الذى يسمى العلموية، وكأنهم يحلونه محل ما عداه، بما فى ذلك الدين. ويأتى رد فعل المعارضين لذلك بالتركيز على بعض الآثار البيئية والمجتمعية والأخلاقية لتطبيقاته، والحقيقة أن جل ـ إن لم يكن كل ـ العلماء لا يتبنون العلموية.
كما أن الآثار الجانبية للعلم لا تعالج إلا بالعلم. والآفة الكبرى فى كل ذلك تتمثل فى من يتحدثون عن العلم ، أو فى العلم بغير علم، وكثيراً ما يدرجون تحت العلم العديد من أشكال الخرافة والعلم الكاذب (التنجيم عندهم يساوى علم الفلك ، والأعشاب الملوثة بالسموم تحل محل الدوائيات المقننة .. إلخ).
ودون أن نعيد اختراع العجلة، اتفقت الأمم المتقدمة والساعية إلى التقدم على أن الثقافة العلمية الجادة هى الكفيلة بتنوير مجتمعاتها وأفرادها، وتمكينهم من إدارة شئونهم بمنهج علمي، وتشكيل آرائهم بناء على معلومات صحيحة وتفكير عقلانى ناقد. أنشأت جامعات غربية كرسيا للفهم المجتمعى للعلم (بريطانيا)، ووضعت دول عديدة برامج طويلة المدى لضمان ذلك (مشروع العلم لكل الأمريكيين 2061 ، الخطط الطموحة للصين والهند ... إلخ). وعندما وضعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم مشكورة استراتيجية للثقافة العلمية، بمشاركة متواضعة من الغالبية، لم يسمع بها الكثيرون، ولم تفعل بالقدر الكافى على قدر علمي. ولم تكن المحاولات المصرية أكثر حظاً، ورغم لجوئنا المعهود إلى «اللجنة» ، حيث تشكلت لجان عديدة للثقافة العلمية فى جهات كثيرة، أحدثت إحداها (فى المجلس الأعلى للثقافة) زخماً ملحوظاً فى تسعينيات القرن الماضى.
لست من أنصار البكاء على اللبن المسكوب ، خصوصاً مع قلته على أى حال. من الأفضل أن نتحاور حول سؤال: «ما العمل؟» ونصل فكراً وفعلاً إلى مقولة : «من هنا نبدأ». أعتقد أن البدايات العلمية / العملية تتمثل فيما يلى:
التفكير فى أسلوب منهجى ناضج لضبط الجودة. حرام أن يختلط القليل الذى يقدم فى الثقافة العلمية بهزال المستجدى، بل وبالدجل والخرافة والعلم الكاذب، لقد دعوت وما زلت أدعو إلى مرصدللثقافة العلمية يقوم بذلك،لكن تفصيله لا يتسع له المجال هنا.
التزام أخلاقى ومهنى من كل المنابر الإعلامية بالتخطيط لمساحة كافية تقدم فيها الثقافة العلمية الجادة (لعل الأهرام هو الوحيد الذى يمتلك قسماً علمياً له تاريخ مميز ، رغم اتجاهه نحو الثقافة الطبية بشكل كبير).
الاهتمام بالتأليف والترجمة المدققين فى المجال (يقوم المركز القومى للترجمة بجهد رائع يسعى إلى التوسع فيه).
احترام السياق الثقافى عند الحديث عن العلاقة بين الدين والعلم ، الذى يتسم بالغلو والمراهقة أحياناً عند هذا الطرف أو ذاك.
تطوير تدريس العلوم، ، وإلقاء الضوء على أهمية منجزات البحث العلمى ، بشكل إعلامى غير إعلاني.
استراتيجية فعالة لغرس العلم ومنهجه فى ثقافتنا ، ومرة أخرى هذا أمر يطول الحديث فيه ، لكنه ضرورى إذا أردنا ألا تبقى الثقافة العلمية «فريضة غائبة». نقلا عن الأهرام