المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

مجلس التعاون الإستراتيجي التركي- السعودي وتحالفات أردوغان الإقليمية

الأربعاء 06/يناير/2016 - 12:37 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. محمد السعيد إدريس

ذهب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى المملكة العربية السعودية (29- 30 ديسمبر 2015) هي الثالثة من نوعها خلال عام 2015. كانت الزيارة الأولى في يناير 2015 للمشاركة في تشييع الملك السعودي الراحل عبد اللـه بن عبد العزيز، وتلتها زيارة ثانية في مطلع مارس من العام نفسه، وهذه هي الزيارة الثالثة للمملكة، وإن كان اللقاء الرابع له مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز حيث التقى أردوغان مع الملك سلمان في مدينة أنطاليا التركية على هامش قمة مجموعة الدول العشرين الاقتصادية الكبرى في العالم في نوفمبر 2015. رغم ذلك تكتسب هذه الزيارة أهمية خاصة واستثنائية لحزمة  من الأسباب.

أول هذه الأسباب أنها تأتي بعد مرور أقل من أسبوعين على إعلان المملكة العربية السعودية تشكيل تحالف عسكري إسلامي بقيادتها ضم 35 دولة كانت تركيا من أبرز الدول المشاركة، وثاني هذه الأسباب أن هذه الزيارة أسفرت عن تأسيس "مجلس تعاون إستراتيجي" تركي – سعودي يشمل التعاون في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والاستثمارية، إضافة إلى شئون الطاقة والتعليم والثقافة والطب على نحو ما كشف وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الذي أعلن في مؤتمر صحفي مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو أن "المجلس يهدف غلى إيجاد نقلة نوعية في العلاقات المتينة بين السعودية وتركيا تخدم مصالح البلدين، وتسهم في إيجاد الأمن والاستقرار والرخاء في المنطقة". وفضلًا عن ذلك أوضح الجبير أن محادثاته مع نظيره التركي "تطرقت إلى الأوضاع في سوريا والعراق واليمن وليبيا، إضافة إلى عملية السلام مع إسرائيل"، وزاد على ذلك "بحثنا سبل التصدي للإرهاب والتطرف في المنطقة،والتصدي للتدخلات الإيرانية في شئون دول المنطقة إلى جانب بحث التعاون بشأن التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب".

القضايا التي جرى التعرض لها بين الوزيرين شديدة الأهمية، فهي شملت تطورات الأزمات الأربع العربية الكبرى: سوريا والعراق واليمن وليبيا، مع إشارة هامشية للقضية الفلسطينية بدت وكأنها تقليدية أو خارجة عن سياق الاهتمامات. كما شملت المحادثات الحرب الدائرة على الإرهاب وهي الحرب التي أخذت مفاهيم متباينة حسب كل طرف، وإن كان العامل المشترك بين كل الأطراف هو تنظيم "داعش". فالسعودية تدعم حربًا للإرهاب تشمل "داعش" وربما تنظيم "جبهة النصرة" لكنها تدعم تنظيمات سلفية تقاتل ضد الجيش السوري وقوات حزب اللـه والقوات الإيرانية المشاركة في الحرب داخل سوريا، وهؤلاء كلهم ضمن توصيف "الإرهاب" بالمنظور السعودي. أما تركيا فتقول إنها تحارب "داعش" كذلك، لكنها تضع قوات الأكراد في شمال العراق، وقوات حزب العمال الكردستاني التركي المعارض ضمن الإرهاب الذي تحاربه في سوريا والعراق، في حين أن إيران تؤكد أنها تحارب "داعش" وكل المنظمات الإرهابية التي تقاتل ضد الجيش السوري، وتسعى إلى إسقاط النظام ومعظمها مدعوم من تركيا والسعودية وقطر. لذلك اكتسبت إشارة عادل الجبير أن محادثاته مع نظيره التركي شملت التصدي للتدخلات الإيرانية في شئون دول المنطقة أهمية لما يمكن أن تتعاون فيه البلدان ضمن "مجلس التعاون الإستراتيجي" الذي جرى تأسيسه بينهما، وضمن التحالف العسكري السعودي الذي تشارك فيه تركيا.

ذهبت تركيا إلى العراق لأنها لم تجد بديلًا للحد من خسائرها في سوريا سوى الدفع بقواتها العسكرية إلى الشمال العراقي بالقرب من الموصل

بهذا المعنى تكتسب زيارة أردوغان هذه للمملكة أهمية استثنائية ولسببين آخرين أولهما أنها جاءت في ذروة التمسك التركي بإبقاء قواتها العسكرية في شمال العراق رغم أنف رفض الحكومة العراقية المركزية في بغداد، ورغم أنف قرار صادر عن مجلس وزراء خارجية الدول العربية بمشاركة السعودية، وهو القرار الذي ما كان له أن يصدر إلا بعد الاستجابة لمطلب السعودية ودول خليجية أخرى بالتعرض أيضًا لإدانة التدخلات الإيرانية في الشئون العربية، أي أن الموافقة السعودية على طلب العراق وجامعة الدول العربية بسحب تركيا لقواتها العسكرية من شمال العراق كانت ضمن الشرط السعودي بإدانة التدخلات الإيرانية في الشئون الداخلية العربية، ما يكشف أن السعودية لم تكن مؤيدة لهذا الطب أو أنها داعمة للتدخل العسكري التركي في العراق. ثانيهما أن هذه الزيارة جاءت في أعقاب مسعى تركي للتقارب مع، إسرائيل، في الوقت الذي كانت إسرائيل تروج فيه لدعوتها لتأسيس تحالف للدول العربية السنية تكون شريكة فيه لمواجهة ما تعتبره تحالفًا للعرب الشيعة تقوده إيران وروسيا، وهي الدعوة التي جاءت متطابقة مع دعوات تركية مشابهة وعلى لسان الرئيس التركي نفسه.

 

أولاً- تركيا والتمركز العسكري شمال العراق

قبل أن يقوم الرئيس التركي بزيارته للرياض وتأسيس "مجلس التعاون الإستراتيجي" مع المملكة العربية السعودية كان قد أكد عزمه على إبقاء قواته العسكرية في شمال العراق، وقدم لذلك مبررات كثيرة أبعد ما تكون عن واقع الحال خاصة مزاعم الحرب على "داعش" في العراق.

 

فقد ذهبت تركيا إلى العراق لأنها لم تجد بديلًا للحد من خسائرها في سوريا غير الذهاب إلى العراق من خلال الدفع بقواتها العسكرية إلى الشمال العراقي بالقرب من الموصل..

دخول القوات التركية إلى العراق كان يوم الثالث من ديسمبر/ كانون أول الجاري عندما تم إدخال قوات تركية مدرعة (دبابات ومدافع) إلى منطقة بعشوقة في محافظة نينوى دون إذن أو علم الحكومة العراقية، وعندما بادر حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية بإعلام الحكومة التركية أن أمامها يومين لسحب قواتها وإلا استخدمت بغداد كل الخيارات المتاحة، واتبع ذلك بإبلاغ القوة الجوية العراقية أن تكون على أهبة الاستعداد "للدفاع عن الوطن وحماية سيادته" جاء رد الحكومة التركية مراوغًا ومستفزًا. في البداية ربطت الحكومة التركية دخول قواتها بعلم حكومة بغداد المسبق، وعندما فندت الحكومة العراقية هذا التبرير جاء الرد صريحًا وعلى لسان نائب رئيس الحكومة نعمان قور تلموش بأن "القوة التركية ليست موجهة ضد الشعب العراقي بل ضد (داعش)، وبأن وجودها في العراق لأغراض تدريبية".

المؤكد أن الحكومة التركية كانت على دراية كاملة بالنقاش الأمريكي – العراقي العلني والمفتوح الخاص باقتراح تقدم به أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي مطالبين بتشكيل قوة إقليمية من "دول سُنية" لمحاربة "داعش"، ورفض الحكومة العراقية القاطع لهذا الاقتراح.

ولعل ذلك ما شجع تركيا للذهاب إلى العراق لكن لدوافع أخرى غير أكذوبة الحرب ضد "داعش" وهنا يجدر بنا أن نتساءل إذا كانت لا تحارب "داعش" بل هي داعم لهذا التنظيم لوجستيًا على الأقل، وطرف مستفيد من الحرب التي يخوضها هذا التنظيم الإرهابي، فلماذا كان التدخل التركي، وما مآلات والمشاهد أو السيناريوهات المحتملة للتدخل التركي في العراق؟

الإجابة عن هذه التساؤلات تستلزم استعراض الملاحظات التالية التي لها علاقة مباشرة بتأزم المشروع الإقليمي لتركيا خاصة في سوريا والانتكاسات العسكرية والسياسية المتعاقبة لهذا المشروع، التي دفعت تركيا للدخول إلى العراق في محاولة للدفاع عن مصالح حيوية تراها ولتحقيق مكاسب تطمح إليها لفرض نفسها لاعبًا إقليميًا في العراق كبديل للخسائر التي واجهتها في سوريا.

     أولى هذه الملاحظات المفسرة للتدخل العسكري التركي في العراق هي فشل المشروع السياسي التركي في سوريا بشقيه: إسقاط حكم الرئيس بشار الأسد وتمكين الإخوان من حكم دمشق. فلا الرئيس السوري سقط على مدى أربع سنوات مضت من الحرب التي تشارك فيها تركيا ضده، ولا أمكن للإخوان فرض أنفسهم كطرف رئيسي في معادلة مستقبل سوريا ضمن تنازع هذا المستقبل بين أطراف وقوى متعددة بتعدد الأطراف الدولية والإقليمية والعربية المتورطة في هذه الحرب.

ثانية هذه الملاحظات هي فشل تركيا عسكريًا في سوريا وبالتحديد فرض منطقة آمنة في شمال سوريا بين جرابلس وأعزاز، بهدف منع الكنتونات الكردية في شمال سوريا، وجاءت تداعيات إسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية لتضع نهاية أليمة لهذا الحلم التركي بعد أن فرضت روسيا منطقة حظر على دخول أي قوات تركية إلى شمال سوريا، وزادت من تعاونها مع الأكراد السوريين (وحدات الحماية الكردية) الحليفة لحزب العمال الكردستاني التركي المعارض التي نجحت في فرض سيطرتها على أكثر من 500 كيلو متر من الحدود السورية مع تركيا، الأمر الذي أثار مخاوف الحكومة التركية من أن تتمدد "وحدات الحماية الكردية" السورية نهر الفرات إلى الغرب، والسيطرة على المناطق من جرابلس إلى عفرين.

الملاحظات المفسرة للتدخل العسكري التركي في العراق هي فشل المشروع السياسي التركي في سوريا بشقيه: إسقاط حكم الرئيس بشار الأسد وتمكين الإخوان من حكم دمشق

الملاحظة الثالثة تتعلق بالتطورات التي حدثت على صعيد التسوية السياسية للأزمة السورية وبالذات مخرجات مؤتمري فيينا الأخيرين، ومن بينها التوصل إلى توافق يبقي مرحليًا على الرئيس السوري بشار الأسد في المرحلة الانتقالية المقترحة.

أما الملاحظة الرابعة فتتعلق بالتطورات الميدانية التي تزامنت مع فشل الرهانات التركية في سوريا، بعد أن تم تحرير سنجار على يد قوات البشمركة العراقية وتحرير منطقة الهول على يد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، الأمر الذي أدى إلى خسارة إستراتيجية لتنظيم "داعش" من شأنها قطع الطرق الموصلة بين مدينتي "الرقة" السورية (عاصمة "داعش" في سوريا) والموصل (عاصمة "داعش"  في العراق) ما يعني توجيه ضربة إستراتيجية لمشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام، لكن ما هو أخطر أن هذا الإنجاز تحقق على أيدي مقاتلين أكراد الأمر الذي فجر المخاوف لدى تركيا، ومن هنا كان التوجه العسكري التركي نحو العراق.

بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن الدخول العسكري التركي شمال العراق جاء بدافع من كل هذه التطورات، وبالذات الخسائر التي واجهت وتواجه "داعش" والمكاسب التي تتحقق للأكراد، وخطورة أن تنعكس انتصارات الأكراد في شمال تركيا والعراق إلى الداخل التركي نفسه، وإعطاء حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل داخل المناطق الكردية في تركيا، ويسعى لفرض خيار "الحكم الذاتي" بحكم الأمر الواقع ويستقوى سياسيًا بوجود "حزب الشعوب الديمقراطي" الكردي في البرلمان فرصة سانحة للانتصار.

كما استهدفت تركيا من تدخلها العسكري في العراق توجيه رسائل إلى قطبي مؤتمر فيينا السوري: الولايات المتحدة وروسيا بأن تركيا لديها أوراق تستطيع أن تلعبها في العراق، ولعل هذا ما دفع الولايات المتحدة إلى دعم المطلب العراقي المؤيد من روسيا بضرورة خروج القوات التركية من العراق، وتفنيد المزاعم التركية بان وجود القوة التركية في العراق هدفه محاربة "داعش" على نحو ما جاء على لسان نائب رئيس الوزراء التركي، لكن إلى أي مدى يمكن أن تصطدم واشنطن مع أنقرة في العراق؟

إجابة هذا السؤال يمكن أن تكشف مستقبل حدود الدور التركي الإقليمي، نظرًا لأن تركيا لن تخرج عن الطاعة الأمريكية، كما أن واشنطن يصعب أن تضحي بحليف تاريخي مثل تركيا خصوصًا في ظل التوجه التركي الجديد لمغازلة "إسرائيل" علنيًا في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أوراق اللعب التركية مع التعقد المتزايد لخريطة التحالفات والتوازنات الدولية والإقليمية.

 

ثانياً- العودة إلى "الحليف المأمون"

لم تكتف تركيا بمحاولة فرض نفسها كلاعب أساسي في التطورات والتسويات المحتملة في العراق على ضوء نجاحات العراق في هزيمة "داعش" في مدينة "الرمادي" عاصمة محافظة الأنبار، ما يعني أن فرض تحرير مدينة الموصل هي الأخرى باتت مواتية، ولكنها اتجهت إلى إسرائيل، أو قررت أن تتجه صوب إسرائيل بعد انسداد فرصها تمامًا في سوريا نكاية مع إيران.

قبل التوجه نحو إسرائيل كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حريصًا على تأمين مكاسبه العربية من خلال قناتين الأولى الاستجابة السريعة للمشاركة في التحالف السعودي الإسلامي، والثانية تفعيل اتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع دولة قطر بالإعلان عن إقامة قاعدة عسكرية تركية في قطر هي الأولى من نوعها منذ انتهاء عصر الإمبراطورية العثمانية.

الواضح أن إقامة هذه القاعدة العسكرية التركية في قطر ليس لدوافع من حاجة قطرية للحصول على دعم عسكري تركي، لأن قطر بها أهم قاعدتين عسكريتين أمريكيتين، الأمر الذي يكشف أن الدوافع سياسية بالدرجة الأولى، وهي رسالة مزدوجة الأولى نحو إيران لإعلان موقف تركي مفاده؛ أنه إذا كانت طهران قد نجحت في أن تقيم وتؤسس نفوذًا على حدود تركيا في سوريا، فإن تركيا تقيم قاعدة عسكرية في قطر بمواجهة الأراضي والسواحل الإيرانية. أما الرسالة الثانية فهي للحليف "الإسرائيلي" مفادها؛ أن تركيا تتوجه نحو "إسرائيل" من موقع القوة والنفوذ الإقليمي وليس من موقع الضعف، وتحمل أيضًا ما هو أكثر وهو أن الشراكة التركية- "الإسرائيلية" الجديدة في مقدورها أن تفتح آفاقًا غير معهودة لـ "إسرائيل" على مقربة من السواحل الإيرانية.

 

كما أن تركيا كانت حريصة أيضًا على تمتين العلاقة مع المملكة العربية السعودية بالعزف على أنغام سعودية تضع إيران موضع مصدر التهديد الأول، وتتهم إيران بإشعال صراع طائفي سُني- شيعي يهدد استقرار وأمن دول المنطقة. فقد بادر أردوغان بتبني خطاب مذهبي امتد إلى حزبه الحاكم في أنقرة "العدالة والتنمية"، بدأ بتعمد أردوغان الإشارة علنًا إلى الانتماء المذهبي العلوي لزعيم المعارضة التركية كمال كيليتشدار أوغلو زعيم "حزب الشعب الجمهوري"، وتعمد توجيه خطاب انتقادي غير معهود للشيعة على شاشات التليفزيون واصفًا إياهم بأنهم "منافقون وكاذبون".

تعمد الحديث إلى محطة تليفزيونية عربية متسائلًا عن مصير بعض المجموعات في العراق، التي قال أن القوة العسكرية التركية الموجودة في العراق تهدف إلى ضمان أمنها. وقال بالحرف الواحد: "هنا يوجد عرب سنة، ويوجد تركمان سنة، ويوجد أكراد سنة، فمن الذي سيحفظ أمن هؤلاء. هم بحاجة إلى حماية أنفسهم عبر برنامج التدريب الحالي، وكل الخطوات التي نقوم بها هي في هذا الاتجاه".

      هذا الخطاب المذهبي، وهذا الدور الذي يتحدث عنه أردوغان لتركيا في العراق ينسجم أيضًا مع الفكر الإستراتيجي "الإسرائيلي" حامل لواء الدعوة إلى تأسيس حلف "للعرب السنة" تدعمه "إسرائيل" لمواجهة حلف "عرب الشيعة" المدعوم من إيران وروسيا.

يبدو أن أردوغان كان في معرض تجهيز أوراق اعتماد الشراكة الجديدة مع "إسرائيل" لذلك لم يكتف بالتناغم مع الفكر الإستراتيجي "الإسرائيلي" خاصة دعوة "الحلف السُني" و"الحلف الشيعي" كاستقطاب إقليمي جديد تراه "إسرائيل" الأنسب لإدارة الصراع الإقليمي لتحييد القضية الفلسطينية وإنهاء موقعها المركزي ضمن هذا الصراع، لذلك اتجه إلى توجيه اتهامات مباشرة لإيران بأنها "من يتبنى سياسات طائفية في سوريا". ففي كلمة متلفزة له في إسطنبول (27/12/2015) قال "لو لم تقف إيران خلف الأسد لأسباب طائفية، لما كنا نناقش اليوم ربما قضية مثل سوريا". لكنه تجاوز إيران ليمتد في هجومه إلى روسيا أيضًا باتهامها باستهداف الإسلام. ففي كلمة له (19/12/2015) ألمح إلى استهداف روسيا للإسلام بحجة محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) معتبرًا أن "صراع القوى في سوريا تحول بذريعة الحرب على تنظيم الدولة إلى مأساة".

وإذا كان أردوغان قد قرر العودة إلى "إسرائيل" باعتبارها القاعدة الثابتة التي يجدها عند الضرورة والمفتوحة له دائمًا بدافع من الفشل السياسي التركي في سوريا والعراق، فإنه يتجه أيضًا نحو هذا الحليف "الإسرائيلي" الدائم بدافع من الهروب من الحصار والتضييق الروسي على تركيا في قاعدتها الخلفية في إقليم قزوين، خاصة مع أرمينيا حيث تتجه روسيا إلى إنشاء نظام إقليمي موحد للدفاع الجوي بين البلدين في منطقة القوقاز. لكن التوجه التركي نحو "إسرائيل" يجيء أيضًا بدوافع اضطرارية خاصة بالحرص على تنويع مصادر الطاقة وتحسبًا لتضييق روسي على تركيا في اتفاقيات بيع الغاز، حيث إن تركيا تعتمد على استيراد الغاز الروسي لتلبية ثلث إن لم يكن نصف احتياجاتها من الغاز.

يتجه اردوغان نحو الحليف "الإسرائيلي" الدائم بدافع من الهروب من الحصار والتضييق الروسي على تركيا في قاعدتها الخلفية في إقليم قزوين

أردوغان يتجه إلى "إسرائيل" للحصول على الغاز "الإسرائيلي" كي يتحرر من الضغوط الروسية، لكن لسوء حظه أنه لن يستطيع أن يحصل من "إسرائيل" على ما يأمله، فالإنتاج "الإسرائيلي" من الغاز لن يستطيع أن يوفر لتركيا ما تحصل عليه من كميات الغاز الروسي الضخمة، كما أن أردوغان يربط توقيع اتفاقية شراء الغاز التركي بتوقيع اتفاقية أخرى مع "إسرائيل" تنص على أن تمر كل صادرات الغاز "الإسرائيلي" إلى أوروبا أو قسمها الأكبر عبر الأراضي التركية، أي إنشاء أنبوب من منصات الغاز "الإسرائيلية" إلى تركيا ومنها إلى دول البلقان، وهو ما ترفضه "إسرائيل" لسببين: أولهما الخوف من أن تصبح "إسرائيل" تحت رحمة المزاج المتقلب للرئيس التركي، وثانيهما التحسب من ردود الفعل اليونانية والقبرصية التي سترفض حتمًا مثل هذا الأمر على ضوء اتفاقيات "إسرائيلية" مسبقة حول الغاز مع البلدين، وأيضًا على ضوء التوترات الحادة في العلاقات بين هاتين البلدين مع تركيا.

هذا يعني أن فرص القبول "الإسرائيلي" بمطالب أردوغان تبدو ضئيلة وليس هذا فحسب بل أن فرص تطبيع العلاقات ستبقى مرهونة بإصرار حكومة أردوغان على ضرورة موافقة "إسرائيل" على الطلب التركي برفع الحصار عن قطاع غزة، وهو ما ترفضه "إسرائيل" بل وتزيد أيضًا بأنها "لن تغير سياسة الإغلاق"، وأيضًا لن تسمح بنقل المعدات إلى غزة، وتصر على أن تقوم تركيا بطرد صالح عاروري القيادي البارز في حركة "حماس" من تركيا وترى المصادر الأمنية "الإسرائيلية" أنه لن يكون بالإمكان التوصل إلى اتفاق سياسي مع تركيا "إذا لم تلتزم أيضًا تركيا بترحيل قادة "حماس" من أراضيها، وإذا لم تلتزم أيضًا بممارسة ضغوط على "حماس" لتليين مواقفها". الأمر الذي يعني أن فرص التقارب التركي مع "إسرائيل" ستبقى مشروطة بأن تعدل تركيا من رؤيتها للصراع الإقليمي وتتخلى عن سياستها الداعمة لحركة "حماس" وتتبنى خطابًا سياسيًا يتوافق مع المنظور "الإسرائيلي" الجديد للصراع الإقليمي القائم على "الاستقطاب الطائفي" وليس قضية فلسطين.

إلى أي حد يمكن أن تتجه تركيا نحو هذا التوجه؟

السؤال مهم لأسباب كثيرة أبرزها أنه يكشف بعض جوانب الدوافع التركية لتحالف مع المملكة العربية السعودية وتشكيل "مجلس التعاون الإستراتيجي" معها والمشاركة في الحلف العسكري الإسلامي السعودي منذ لحظة الإعلان عنه.

 

وعلى الرغم من صعوبة الإجابة بـ "نعم" فإن التصريح شديد الأهمية الوارد على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد عودته من زيارته المهمة والاستثنائية للمملكة العربية السعودية فاجأ الجميع بالإعلان عن أن "تركيا بحاجة لإسرائيل على غرار إسرائيل التي تحتاج أيضًا إلى تركيا في منطقة الشرق الأوسط" داعيًا إلى المضي في تطبيع العلاقات بين البلدين التي توترت منذ عام 2010. ففي تصريح نقلته الصحف التركية المحلية أبرز ما ورد فيه يوم الجمعة الأول من يناير 2016 قال أردوغان "إن إسرائيل بحاجة إلى بلد مثل تركيا في المنطقة، وعلينا أيضًا القبول بحقيقة أننا نحن أيضًا بحاجة لإسرائيل، إنها حقيقة واقعة في المنطقة".

هذه المصارحة في العلاقة مع إسرائيل باعتبارها حقيقة واقعة في حاجة أيضًا إلى مصارحة بنفس المستوى لحقيقة تحالفاته العربية، والدور الذي يراه لتركيا في إدارة التحالفات والصراعات الإقليمية، وهي مصارحة ومكاشفة أتصور أن الدول العربية هي الأخرى في أمس الحاجة إليها لتعرف مع من تتعامل ومع من تتحالف ولماذا؟

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟