المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ جلال أمين
د‏.‏ جلال أمين

عن التحـــــرش بأوروبــــــــا

الإثنين 18/يناير/2016 - 11:38 ص

منذ أيام قليلة سمعنا تلك الأخبار المزعجة الآتية من كولون، المدينة الألمانية، ومن مدن أخرى ألمانية ونمساوية وفنلندية، عن قيام مئات من الشباب الذين وصفتهم وسائل الإعلام بأنهم «ذو ملامح شرق اوسطية أو من شمال إفريقيا»، بمهاجمة عشرات النساء والفتيات أثناء احتفالهن برأس السنة الجديدة، وتحرشهم بهن دون أى حياء، فضلا عن خطف وسرقة حقائبهن، بل وجاء فى الصحف أن فتاتين ألمانيتين فى الخامسة عشرة والسادسة عشرة من العمر، جرى اغتصابهما.

وسائل الاعلام فى العالم، وفى الغرب خصيصا، مازالت تندد بهذا العمل الهمجى، والبعيد عن أى شبهة للتحضر واحترام حقوق الانسان، مما يذكر بما جرى حديثا فى فرنسا من قيام بعض المسلمين المتعصبين بالاعتداء على صحفيين فرنسيين، وقتل بعضهم، لأنهم هاجموا الاسلام. وكذلك مما تنقله الأخبار يوميا عن اعمال متوحشة ترتكبها جماعة داعش، وغيرها من الجماعات الارهابية ضد من تعتبرهم كفرة لاعتناقهم دينا آخر غير الاسلام، أو حتى ضد بعض المسلمين الذين لا يطبقون فى رأيهم تعاليم الإسلام، قد تدفع هذه الأخبار الكثيرين منا إلى الرغبة فى التوارى خجلا من فرط الشعور بالعار، إذ إننا كلنا تقريبا نحمل «ملامح شرق اوسطية أو من شمال إفريقيا»، والنادر منا، وسعيد الحظ، من يكون أبيض البشرة أو أزرق العينين، بحيث يصعب تمييزه عن الأوروبيين. ولكن البعض منا قد يخطر له الاعتراض على تصوير الأمر على هذا النحو، فيقدم مختلف الحجج، وإن كان من الممكن أيضا الرد على هذه الحجج كلها .

فأولا: هناك من يعترض قائلا إن ملامح الشخص ليست دليلا كافيا على أخلاقه أو مدى تحضره، ويرى فى الربط بين ملامح الشخص وأحداث الاعتداء الاخيرة شبهة العودة الى أفكار القرن السابع عشر حين ساد الاعتقاد بأن المجرم مجرم بطبعه، وأنه يولد مجرما ولا حيلة معه إلا بإعدامه أو نفيه. والمفروض أن الحضارة الأوروبية قد تجاوزت مثل هذه الأفكار منذ الثورتين الأمريكية والفرنسية على الأقل، اللتين اعتبرتا أن الناس يولدون متساوين.

هذا الاعتراض له وجاهته، ولكن لابد من الاعتراف أيضا بأن لكل قاعدة استثناء (أو كما قال أوروبا فى رواية مزرعة الحيوانات: كل الحيوانات متساوية، ولكن بعضها متساو أكثر من غيره) ومن هذه الاستثناءات المهمة (خاصة منذ سيطر الصهاينة على وسائل الاعلام)، العرب والمسلمون، فهم، لسبب أو آخر لديهم نظرة الى النساء تختلف عن نظرة غيرهم، وهم أكثر استعدادا للتحرش بهمن بالمقارنة بغيرهم من الشعوب، بل وقد يكونون أكثر عدوانية حتى من الأمريكيين الذين ينشر من الاحصاءات بين الحين والآخر، ما يدل على كثرة أعمال العنف المنافية لاحترام حقوق الانسان.

ثانيا: هناك أيضا من يقول ان هذا التشهير الواسع النطاق ليس إلا آخر مثل من أمثلة التشهير بالعرب والمسلمين فى السنوات الأخيرة، والذى بدأ عقب سقوط الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالى والشيوعى، إذ يرى البعض أن خطر الارهاب ليس إلا اختراعا جديدا رآه الغرب ضروريا، بعد زوال الخطر الشيوعى، لاستخدامه كمبرر لاشياء كثيرة ضرورية، كاستمرار التسلح، وتجارة الأسلحة، بل وحتى لتخويف الشعوب الغربية نفسها حتى تكون على استعداد لأن تقبل من السياسات مالم يكونوا ليقبلونه لولا الخوف.. الخ، وأن الصاق تهمة الارهاب بالمسلمين والعرب يؤدى وظيفة إضافية لصالح إسرائيل، ومن ثم قد يرى هؤلاء فى تضخيم وسائل الاعلام الغربية لأحداث كولون الأخيرة، من تحرش بالنساء البريئات، مجرد مثال جديد يضاف الى أمثلة كثيرة لتشويه سمعة العرب والمسلمين (مع الاحتياط الواجب بأن يستعاض أحيانا وصف العرب والمسلمين باستخدام تعبير «ملامح شرق أوسطية وشمال إفريقيا» حتى لا يتهموا بالعنصرية، كما حدث أن اتهموا بذلك فى أيام هتلر) بل وقد يذهب بعض هؤلاء الى أن الاحزاب اليمينية المتطرفة فى الغرب قد تكون وراء ترتيب هذه الحوادث الأخيرة (أو على الأقل وراء تضخيم حجمها) إمعانا فى بث الكراهية لدى شعوبها تجاه المهاجرين الجدد والقدامى، وتمهيدا للتخلص من حكومة مثل حكومة السيدة ميركل التى أبدت تعاطفا معهم، خاصة بعد وفود الآلاف المؤلفة من المهاجرين السوريين هربا من الجحيم الذى يلقونه فى بلادهم، (وهم جحيم لا يمكن، بالمناسبة، إعفاء الحكومات الاوروبية تماما من المسئولية عنه).

كل هذا مفهوم، ولكنه بالطبع غير مقبول. فكل هذا يندرج تحت ما يسمى «بنظرية المؤامرة»، أى البحث وراء كل حادث عن بواعث شيطانية بدلا من الاكتفاء، بما يبدو فى الظاهر، والعرب والمسلمون على أى حال من أكثر الناس استخداما لنظرية المؤامرة، لأنها تعفيهم من المسئولية عما يرتكبونه هم من جرائم.

خطر لى كل هذا لدى سماعى أخبار الأعمال الهمجية التى ارتكبت فى كولون بألمانيا، مما أدى إلى تقديم شكوى من أكثر من خمسمائة امرأة المانية لما تعرضن له فى ليلة رأس السنة:

تحرش جنسى، وجرائم سرقة.. الخ. ثم شعرت أن ما حدث له مغزى أهم من هذا كله، أى أهم من اعتباره مجرد اعتداء من مجموعة من الشباب غير المتحضر، على بعض النساء والفتيات الأوروبيات البريئات، شعرت بأن ما حدث يمثل صداما دراميا ومستمرا بين حضارتين أو ثقافتين، لا ينتظر أن يكون له حل سهل أو قريب. فالمشكلة أعوص من ذلك وأشد عمقا.

 

كان لابد أن يذكرنى ما حدث بتلك الرواية الأثيرة لدى (موسم الهجرة إلى الشمال) للكاتب السودانى الطيب صالح إذ وجدت بين ما حدث فى الواقع فى ليلة رأس السنة، وبين الرواية الخيالية شيئا مهما مشتركا.

فى الاثنين دراما لا شك فيها، بل شئ أقرب الى المأساة. والمأساة فى الحالين تعود الى التقاء لا يمكن الفرار منه بين حضارتين أو ثقافتين، يشعر أصحاب كل منهما نحو أصحاب الحضارة أو الثقافة الأخرى بمزيج مدهش من عواطف متضاربة. فى الرواية السودانية يذهب شاب داكن البشرة الى أوروبا لطلب العلم والرزق، وهو آت من مجتمع يفرض قيودا شديدة على العلاقة بين الجنسين، فيصادف فى أوروبا امرأة جميلة بعد أخرى، يقع فى حبهن ويقعن فى حبه، ولكن تنتهى قصة ثلاثة أو أربعة منهن (بعضهن متزوجات) بالانتحار، وتنتهى قصة أخرى بجريمة هى مزيج من القتل والانتحار، وتؤدى به الى السجن فى أوروبا سبع سنوات، قبل أن يعود نهائيا الى قريته السودانية. مشاعر الشاب (ذى الملامح الشرق اوسطية) نحو النساء الأوروبيات مزيج من الرغبة والرهبة والاعجاب والخوف والرغبة فى الانتقام. وشعورهن نحوه بمزيج أيضا من الرغبة والإعجاب والخوف والاحتقار. كل من الطرفين يريد الآخر ولا يريده فى الوقت نفسه. الآتى من الجنوب يريد حرية الشمال ولا يريدها، يريدها لنفسه ولا يريدها لنسائه. يسره أن يرى اعجاب النساء به، ولكنه يلمح احتقارا خفيا جانبهن واشتهارا به. وأوربا تحتاج الى الجنوبيين ليقوموا بالوظائف التى لم يعد فى أوروبا من يريد القيام بها، أو لأن معدل المواليد فيها لا يوفر الحجم الكافى من القوة العاملة، ولكن أوروبا تصر على أن تظهر للآتين من الجنوب نفس النفور القديم ونفس التعالى المختلط بالاحتقار.

البطل فى قصة «موسم الهجرة الى الشمال»، يقرر بعد أن قضى سبع سنوات فى السجن فى لندن، عقابا له على اعتداء على نساء بريئات، أن يعود ادراجه الى قريته فى السودان، وأن يتزوج من سودانية، على أساس أنه يحمل فى دمه ثقافة لا يمكن أن تتعايش مع الثقافة الاوروبية. ويفعل ذلك، فيعود الى السودان ويتزوج من سودانية، ولكنه يجعل من إحدى غرف منزله «غرفة انجليزية»، لا يدخلها إلا هو، وتحتوى على أعداد قديمة من صحيفة التايمز، وبعض كتب الشعر الانجليزى، بالاضافة الى مدفأة على الطراز الانجليزى، وخطابات قديمة كان قد تبادلها مع عشيقاته الانجليزيات.

ما الذى يمكن أن يتوقعه المرء عندما يخرح الجميع فى احتفال برأس السنة الجديدة، فيتقابلون وجها لوجه فى الشوارع والميادين، خاصة إذا كان قد لعب الخمر برءوس معظمهم، رجالا ونساء، فلم يعد بقدرتهم إخفاء مختلف المشاعر المتضاربة التى تضطرم فى قلوب الجميع؟. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟