المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. سامح فوزى
د. سامح فوزى

الربيع العربي التائه بين مطالب الديمقراطية وتراجع التنمية

السبت 23/يناير/2016 - 11:14 ص

ما يحدث في تونس هذه الأيام يمنح دليلا مهما علي أن استقرار الديمقراطية في الدول ذات الدخول المنخفضة والمتوسطة يحتاج إلي تنمية اقتصادية. هذه هي إحدي مقولات الباحث الأكاديمي الشهير «لاري دايموند»، ويعني بالتنمية الاقتصادية ليس فقط ايجاد فرص عمل، وتطوير نوعية الحياة للمواطنين، ولكن أيضا معايير أخري مثل الكفاءة، تعزيز المساءلة، السياسات العامة الكفء التي تحد من الفقر، وتحقق العدالة الاجتماعية. لا يعني ذلك أن تؤجل الديمقراطية إلي حين تحقيق التنمية الاقتصادية، فهذه دائما ذريعة الانظمة الاستبدادية، ولكن يعني أن الديمقراطية، التي تحولت إلي نداء كوني في كل أرجاء المعمورة، تحتاج إلي تنمية اقتصادية.

المتأمل لحال الدول المتقدمة والفقيرة لابد أن يصل إلي نتائج واضحة في هذا الخصوص. التنمية الاقتصادية تغير المجتمعات، حيث تزداد معدلات التعليم، وتقل الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون، ويتحقق الأمن الاقتصادي، الذي هو قوام الاستقرار في المجتمعات الحديثة، وتتعدد مراكز الثروة مما يحول دون تركزها في يد أشخاص أو طبقة أو جماعة ضيقة، وهو بالتأكيد يصب في صالح التعددية السياسية التي تعبر عن تنوع المصالح في المجتمع الحديث.

يُشار إلي تونس بأنها دولة استطاعت أن تشتق لنفسها نهج «الديمقراطية التوافقية»، فهي في نظر الغرب، نموذج الربيع العربي المنشود. فقد استطاعت القوي السياسية فيها، علي اختلاف ألوانها واتجاهاتها، أن تضع دستورا، وتجري انتخابات برلمانية ثم رئاسية. البناء السياسي إذن- صٌمم وفق الوصفة الديمقراطية من حيث تعددية سياسية، وإجراء انتخابات شارك فيها المواطنون، وتشكل مؤسسات سياسية علي قاعدة الانتخاب. ورغم ذلك، فإن الأوضاع الاقتصادية السيئة قادت إلي احتجاجات اجتماعية خاصة في المناطق الأكثر فقرا، والأقل تنمية، والتي رأت أن خمس سنوات من عمر ثورة «الياسمين» التي أطاحت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي لم تؤد إلي تحسن الأوضاع الاقتصادية، ولم تتحقق شعارات الثورة في التنمية والعدالة الاجتماعية، ولم يجد شاب آخر سبيلا سوي اشعال النار في جسده أسوة بما فعله «بوعزيزي» منذ خمس سنوات، وأشعل ثورة التغيير في بلاده.

أخشي أن يسيء البعض قراءة دلالات الحدث التونسي. لم يحتج المهمشون علي الديمقراطية، ولكن احتجوا علي غياب التنمية الاقتصادية، وهو مطلب مشروع لقطاعات عريضة من المواطنين يريدون تغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتردية. واقع الحال أن الناس تطالب بالأمرين معا: الحقوق والحريات السياسية، والتنمية الاقتصادية، وكلاهما غير منفصلين، ولا توجد لأي منهما أولوية علي الآخر. لأنه عمليا يصعب أن تتعزز الديمقراطية دون تنمية اقتصادية، ولا يمكن أن تزدهر التنمية الاقتصادية بمعناها الحديث دون ديمقراطية. إذ أن التنمية الاقتصادية في جوهرها تقوم علي مواجهة التهميش، وإدماج قطاعات واسعة من الفقراء في المجتمع، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتقليل الفجوة بين الطبقات، والارتقاء بالخدمات العامة وفي مقدمتها التعليم والصحة. ويصعب أن تتحقق هذه المتطلبات التنموية دون مشاركة المجتمعفي تقرير شئونه، وهو جوهر الديمقراطية. المسألة هنا ليست فقط سياسية تتصل بالانتخابات واحترام حقوق وحريات المواطنين، لكنها تتصل في الأساس بتوسيع نطاق مشاركة المواطن في شئون المجتمع: خطط التنمية، المشروعات الاقتصادية، تخصيص بنود الميزانية العامة، المحليات، مساءلة الجهاز الإداري، تعميق مشاركة المرأة والشباب في التنمية الاقتصادية، وهي «الوصفة التنموية» التي أخذ بها عدد من الدولة، واستطاعت من خلالها أن ترتقي بالأمرين معا: الواقع الاقتصادي، والمشاركة العامة. نذكر من بينها البرازيل، والهند، وجنوب أفريقيا، وغيرها. النموذج السلطوي في التنمية، مهما حقق من نتائج ملموسة، ستظل مطالب الديمقراطية تؤرقه، واحتجاجات الطبقات الوسطي تحاصره. والنموذج الديمقراطي التعددي، دون تنمية اقتصادية، سيؤدي إلي اتساع دائرة التهميش الاجتماعي والاقتصادي لصالح الاغنياء، ويخلق «كانتونات» مغلقة في المجتمع، ويجعل الحرية للأغنياء، والقمع للفقراء، ويجعل هناك دائما عناصر عدم استقرار سياسي وأمني.

الإشكالية التي تواجه المجتمعات المتعثرة سياسيا واقتصاديا، ونحن لسنا بعيدين عنها، أن صناعة السياسات العامة بها تجري في جزر منعزلة، بلا ارتباط بين مكوناتها، ويصبح لكل مؤسسة أو كيان بها «مساحة» منفصلة، تخططها كيفما تشاء، ويزيد علي ذلك بأن يصبح للمكون الأمني الصدارة. وهو بلا شك عنصر مهم، وضروري في ضوء المخاطر التي تحيط بالمجتمع داخليا وخارجيا، لكنه بالمناسبة لن يستطيع أن يحقق مراميه دون تخطيط مجمل السياسات العامة علي أساس من التنمية والمشاركة. اقصاء أو تأجيل السياسي لصالح الاقتصادي «وهم» لن يجلب الاستقرار، والاكتفاء بالسياسي دون تنمية اقتصادية تفسخ تدريجي للمجتمعات، وتعزيز للاستقطاب الاجتماعي الحاد.

المسألة معقدة، وتحتاج إلي ساسة لديهم الرؤية الواسعة، والخبرات الفنية، والرغبة في نهضة المجتمع وفق نظرة أرحب للصالح العام. وهو أمر نفتقده، حيث يحكم كل وزارة أو كيان في المجتمع رغبة في تحقيق الصالح الخاص لها الذي يٌنظر إليه علي أنه تجسيد للصالح العام، أو الأهداف العليا للمجتمع. الأمثلة علي ذلك التداخل والتضارب كثيرة، تعج بها وسائل الإعلام كل يوم، ويحتار الرأي العام في تفسيرها. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟