ثمة أوجه شبه بين فلاديمير بوتين وأدولف هتلر: تعاظم سلطانهما. وأعلن بوتين أن أفول الاتحاد السوفياتي هو أسوأ كوارث القرن العشرين، وأن من كان يوماً عميلاً للاستخبارات السوفياتية، «كي جي بي»، «يبقى دوماً عميلاً لها». ورأى الأوروبيون والغربيون، في البداية أن هتلر ليس سوى شعبوي مزعج يمكن التعامل معه إلى حين وقوع ليلة الكريستال (أعمال عنف ضد اليهود في ألمانيا والنمسا في 1938). وهذا العمى الطوعي عن أعمال الديكتاتوريين يسمح لهم بترسيخ سلطتهم في الداخل، فيحسب عامة الناس حين يقف العالم موقف المتفرج من أعمال المستبد الجنونية والعنيفة، أن القائد أهل للثقة.
ولم يقتنص الغربيون فرصة دعم التغيرات الديموقراطية في مطلع التسعينات. وكان من المفترض أن يعد الغرب خططاً لما بعد أفول الاتحاد السوفياتي في 1991. فهذا المنعطف ضخم وهو شبيه بمنعطف 1918 (نهاية الحرب العالمية الأولى) أو 1945 (نهاية الحرب العالمية الثانية). لكن الغربيين لم يبادروا الى شيء من هذا القبيل، واكتفوا بالاحتفال بما سماه صديقي فرانسيس فوكوياما، «نهاية التاريخ»، أي بغلبة كفة الديموقراطيات. ولم يشيِّد الغرب مؤسسات قادرة على ضمان إرساء الديموقراطية لدى الأمم. وترك روسيا لمصيرها، وحَسِبَ أنها لم تعد مصدر خطر.
عالم اليوم مختلف عن عالم الأمس. فالديموقراطيات والدول المتخلّفة والديكتاتوريات تنزل في حيّز واحد: حيّز عالم الـ «تويتس» (التغريدات على موقع تويتر) والأخبار الفورية. وتسعى الأنظمة الديكتاتورية الى تأجيج النزاعات مع العالم الخارجي أو الديموقراطي لتسويغ الاستبداد في الداخل. والقائمون على هذه الأنظمة لا يملكون غير التمسك بالسلطة. فهم يعرفون أنهم سيحاسبون على جرائمهم لحظة يغادرون مناصبهم. وهم أحرقوا كل سفنهم، ولم تعد العودة عما اقترفوه ممكنة، في وقت ينهار الاقتصاد ويُطعن في مشروعيّتهم. وانقضت مرحلة كان فيها سعر برميل النفط 150 دولاراً، وموّلت عائدات النفط بروز طبقة وسطى في روسيا، على رغم الفساد. والنزاع هو السبيل اليتيم الى احتفاظ بوتين بمنصبه. فمنذ 2013، كان صوته يعلو في التحذير من خطر «الناتو»، في وقت كان الرئيس باراك أوباما يقلّص انتشار بلاده العسكري في أوروبا، وسحب كل الدبابات الأميركية من القارة. وبوتين يحتاج اليوم، الى سورية للنفخ في النزاع مع الغرب ورصّ صفوف الداخل الروسي.
الفساد والنظام صنوان
وفي عهد بوريس يلتسين، كان الفساد مشكلة في روسيا فحسب. لكنه في عهد بوتين، صار الفساد هو النظام، وقوامه الولاء المطلق للرئيس. وأوجه الشبه كبيرة بين هذا النظام والمافيا.
والفرق بين أوكرانيا وروسيا، وهما بلدان لصيقان، كبير. ففي أوكرانيا، ومنذ 1994، تغيَّر النظام في صناديق الاقتراع. ورسّخت قوة معارضة، ولو كانت أقلّية، وأمكن وسائل إعلام مستقلة العمل. وفي حكم بوتين، لا نظير لمثل هذه الأمور. فمنذ 2005، سدت منابر الصحافة والإعلام أمام المعارضين من أمثالي. والقمع البوتيني يومها كان في مرحلة «نباتية»، (من غير دماء)، فبات اليوم دموياً. ففي الأمس، كانت عقوبة المعارض السجن بضعة أيام، واليوم، ينتظر القتل والاغتيال. وثمة أوجه تباين كبيرة بين البروباغندا البوتينية والبروباغندا السوفياتية. وتروي أمي المقيمة في موسكو، أن وسائل الإعلام في أسوأ المراحل الستالينية الكالحة، كانت تَعِدُ الناس بغدٍ أفضل. لكن بوتين يَعِدُ بمستقبل قاتم تعمّه المؤامرات ويشوبه القتل والأعداء المميتون.
ولا شك في أن الرؤساء الديكتاتوريين لا يقيمون وزناً لكلام من غير أفعال. والأسوأ، إهانة الديكتاتور وألا يحرك المرء ساكناً بعدها، كما فعل باراك أوباما حين وصف بوتين بنمر من ورق نفوذه إقليمي فحسب. وكان حرياً بالرئيس الأميركي حين وصفه نظيره الروسي بـ «الإقليمي»، أن يقدم بيّنات على قوله فيرسل حاملة طائرات الى جوار أوديسا الأوكرانية ويذكر بوتين بحجم قوته. وتكرر الخطأ الأميركي، إذ لم تقرن الأقوال بأفعال حين أبلغ أوباما بشار الأسد، وعلى مسامع بوتين، أن استخدام الغاز الكيماوي خط أحمر (محظور). ولم يحرك الرئيس الأميركي ساكناً حين انتهك الأسد المحظور...
أنا المولود في عهد نظام سوفياتي، أجد صعوبة في إدانة عملية إطاحة ديكتاتور مثل صدام حسين. وكانت إطاحته خطوة نحو غاية مشروعة. ولم يكن تقويم الأخطاء يقتضي العودة الى الخانة الصفر كما فعل أوباما في الشرق الأوسط. فالانسحاب العسكري الأميركي خلّف فراغاً ملأته إيران وروسيا.
وليس في محلّه القول أن بوتين أدى دور المواطن الصالح في العالم حين يسّر إبرام الاتفاق النووي الإيراني، ونظّم عملية تدمير مخزون الغاز الكيماوي السوري، وشنّ حملة جوية قد تساهم في محاربة «داعش». فالرئيس الروسي يخدم مصالحه فحسب. وهو رجّح كفــــة حلـــيفه الإيراني في اتفاق نووي كارثي. وأرى أن علاقته ببشار الأسد تشبه علاقة أولاد رهط واحد. والرهط في هذه الحال هو رابطــــة الديكتاتورية. ولم يعلن بوتين دعم المستبد السوري إلا بعد أن دعاه أوباما الى التنحّي. ومذذاك، يسعى الى ترجيح كفته علـــى كفة الرئيس الأميركي في الشرق الأوسط، والسخرية من تردّده.
بوتين وتطرّف أوروبا
ويرى بوتين أن تدفّق اللاجئين على أوروبا ذريعة مثالية لاستمالة الرأي العام الأوروبي وفرصة سانحة أمام حلفائه من اليمين المتطرف الأوروبي، على غرار حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسي، الذين يموّلهم الكرملين. وتعاظم نفوذ الحركات اليمينية في أوروبا قد يساهم في رفع العقوبات عن روسيا. والرئيس الروسي عميل «كي جي بي» متمرس في التلاعب بالناس. وهو ينفق ثروات روسيا على تمويل حملة البروباغندا الدولية. وأمواله تغذي شبكة دولية واسعة من السياسيين، والاتفاقات التجارية تستميل إليه شطراً من عالم الأعمال. وتمويل شبكة «روسيا اليوم» بالإنكليزية منقطع النظير في العالم.
احتمال المواجهة المسلّحة بين الغرب وروسيا مستبعد. فهذا البلد يملك القنبلة (النووية)، لكن قواته التقليدية ضعيفة. وأتمنى أن تنزل ببوتين تبعات خطواته المجنونة. وعلى سبيل المثل، أسقط الأتراك مقاتلة روسية، بعد أن رجوه أن يتوقف عن قصف التركمان. ورداً على تركيا، أقرّ حظراً على السياحة فيها، فأطاح قطاع السفر الروسي. والخلاف مع تركيا يزعج ثاني أكبر قوة دينية في روسيا، وهي المسلمون السنّة المقربون إتنياً من الأتراك. والأرجح أن بوتين غالى في توتير العلاقة مع الأتراك مغالاة حملت رئيس جمهورية تترستان على التجرؤ والتنديد بـ «المغامرة» البوتينية.
والشهرة لا تحصّن المعارضين الروس من الاغتيال. ويقال أن الفوضى تنتظر روسيا بعد رحيل بوتين، لكنها خيرٌ من وقوع الكارثة في الغد. فتجاوزات هذا النظام بدأت تقصم ظهر روسيا، وتشير الى احتمال انتفاضات مناطقية، في وقت تطمع الصين بوضع اليد على أراض روسية غير مأهولة. أرغب في أن ينتهي عهد بوتين اليوم قبل أن يفقد بلدي قدرته على التعافي والنهوض.
نقلاً عن الحياة