المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. نصر محمد عارف
د. نصر محمد عارف

تحرير العقول من السَلَفِيات والثنائيات

السبت 06/فبراير/2016 - 03:45 م

طلب منى أن أشارك فى فتح ملف تجديد الفكر فى مصر برؤية تسهم فى فتح آفاق الخروج من هذه الإشكالية الكبري؛ التى تاه فيها العقل المصري، والعربى من بعده على مدى ما يقارب القرنين من الزمان، رُفعت فيها شعارات التجديد ودعواه؛ بينما كان المنتج قديما مستوردا من بطون التاريخ فى صورة سلفية دينية، أو مجلوبا من مجاهيل الجغرافيا فى صورة سلفية حداثية بشقيها الليبرالى أو الماركسي.

ووضع كل شيء فى حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية على طرفى نقيض لا ثالث بينهما، فكانت حياتنا بين رذيلتين ولا فضيلة بينهما، وافتقدنا صفة الوسطية التى هى وسط بين رذيلتين، وأصبحنا نتقاتل حول ثنائيات وهمية، أو متوهمة لا توجد إلا فى عقول الطبقة المثقفة أو المتعلمة.

نحن بطبيعتنا أمةٌ رَسَمَ الدينُ ـ أيا كان اسمه وأيا كان مصدره ـ نظم تفكيرها، أى أن نظرية المعرفة (الابستمولوجيا) عند المصريين مؤطرة بقداسة الدين، فقد اعتنقت الأمة المصرية عبر تاريخها أديانا متعددةً، ولم يذكر التاريخ أنها كانت بلا دين ولا كهنة وكهنوت فى أى مرحلة من مراحل تاريخها، ومن هنا كان الدين هو الذى يعطى الشرعية للفكر والسلوك والعادات والتقاليد، أى أنه هو الإطار الثابت الذى تتقولب الثقافة داخله وتحمل جيناته الوراثية، وتتشكل طبقا لأطره ومناهجه.

ومن أهم خصائص مصر أنها مجتمع لم يشهد حالة انقطاع فى تاريخه، لأنه لم يحدث أن تم اجتياحها اجتماعيا بصورة عاصفة كما فعل الرومان مع اليونان، أو كما فعل المغول مع الشعوب التى غزوها، ولم يعرف المجتمع المصرى ثورات جذرية مثل الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية، كل ذلك أدى إلى أن التاريخ الثقافى لمصر لم ينقطع، وإنما تراكم كطبقات الأرض، طبقة فوق طبقة، لأن الانتقال من عصر إلى آخر، ومن ديانة إلى أخري، ومن لغة إلى أخرى تم بصورة تدريجية عبر عشرات بل مئات السنين، فعلى سبيل المثال احتاج المسلمون إلى ثلاثة قرون بعد فتح مصر وحكمها؛ ليصبحوا هم الأغلبية العددية على أرض مصر، وفى كل تلك العصور المتتالية كان الدين هو محور حياة المصريين.

هذه الحالة من محورية الدين فى ثقافة المصريين؛ وما صاحبها من تراكم الأديان والمذاهب والثقافات التى خلقتها فى الوعى المصري، جعلت من الثقافة المصرية ومن الإنسان المصرى جبلا من طبقات متعددة من عصور جيولوجية متتالية؛ تشكل جميعها وعيه الذى يتعامل به مع أى فكرة أو قضية على أنها جزء من الدين فيضفى عليها قداسة معينة، وينظر إليها على أنها مسلمات وعقائد غير قابلة للنقاش، ويتبناها على أنها عقيدة ثابتة راسخة، حتى أصبحت كل الأيديولوجيات السياسية، والأفكار الفلسفية، والنظريات العلمية تأخذ مكانة الدين، ورسوخه فى عقول من يعتنقونها، بل إن النظريات العلمية؛ التى هى بطبيعتها قابلة للدحض والنفي؛ تتحول إلى أديان لا تقبل التشكيك عندما تدخل مصر، فالماركسية والداروينية والوجودية.. الخ جميعها أديان، وأحيانا سلفيات لها أنبياء وصحابة وتابعون.

وقد أدت الصدمة الحضارية التى خلفتها الحملة الفرنسية على مصر إلى بروز الدعوة إلى تجديد الفكر، أو تجديد الموروث الديني، أو تجديد التفكير الديني، ولكن للأسف جاءت هذه الدعوة من خارج البنية الدينية، فحملت فى ذاتها بذور فنائها، لأن من نادوا بها وضعوها فى ثنائيات متعارضة أو متناقضة أو متقابلة، فكأن الدعوة لتجديد التفكير الدينى تأتى فى سياق المقابلة أو المقارنة مع التجربة الأوروبية، على أساس أنها القدوة والنموذج الذى يقتدى به، وعلى آثاره لابد أن تسير جميع الأمم، فتحولت من دعوة للتجديد عند من وُجهت إليهم؛ إلى دعوة لاستبدال الثقافة الغربية بالثقافة العربية الإسلامية، أو بالثقافة المصرية الموروثة، وهنا تحولت من دعوة للتجديد إلى دعوة للحرب بين حزبين سلفيين، أحدهما يتمسك بما توارثه عن آبائه وأجداده على أساس أنهم سلفه الصالح، والآخر يتمسك بما نقله عن آبائه وأجداده بالتبنى العكسى من الأوروبيين.

ومنذ ذلك الحين لا تزال الثقافة المصرية أرض معركة بين هذين التيارين؛ ولا يظهر فى الأفق نهاية لذلك، وتحولت دعوة التجديد إلى معركة سياسية من أجل السيطرة والاستحواذ على الوعى المصرى ومن ورائه العربي، وأصبح الإنسان المصرى يتخبط فى حياته بين حائطين يحيطان به عن اليمين وعن الشمال؛ فى صورة ثنائيات متناقضة متعارضة لا نهائية؛ يحرسها ويغذيها ويدافع عنها سلفيون يتخذون من التراث الإسلامى مرجعية لهم، وسلفيون آخرون يتخذون من التراث الغربى مرجعية لهم، وحضر فى هذه المعركة المستمرة المستعرة الأموات من الجانبين وغاب الأحياء، حضر المرجع وغاب من يتحدث باسمه، وأصبح الصراع بين رؤيتين دينيتين، وليس بين نسقين معرفيين، ورؤيتين بشريتين للإنسان والكون والحياة، وتحولت الساحة الثقافية المصرية إلى مجال لتصادم أبوحامد الغزالى ورينيه ديكارت، أو ابن خلدون وكارل ماركس.. الخ.

لذلك فشلت كل محاولات تجديد التفكير الدينى أو الخطاب الإسلامي، أو تجديد الفكر بشكل عام لأسباب ثلاثة هي:

أولا: إنها تأتى دائما من خارج البنية المعرفية للخطاب، أى أنها دعوة «برانية» وليست «جوانية»، أى يحملها ويدعو لها مفكرون أو مثقفون من أرضية السلفية الحداثية الأوروبية بمدارسها المختلفة من الماركسية إلى الليبرالية، ولذلك يكون من السهل التركيز على صاحب الدعوة وانتماءاته الأيديولوجية، وليس على فكره ولا على محتوى دعوته التى قد تكون صحيحة ومطلوبة، وكان من الممكن أن يتم قبولها لو صدرت من شخص آخر.

وهنا كان العامل الشخصى حاسما فى فشل كل المحاولات من فرح أنطون وسلامة موسى إلى طه حسين، حتى فرج فودة وسعيد العشماوى ونوال السعداوى وغيرهم، جميعهم قدم أطروحته لتجديد التفكير الدينى منطلقة من عقلية سلفية حداثية أوروبية، يريد من خلالها أن يتخلص من السلفية الإسلامية، فانتصرت الثانية لأنها جزء من التكوين الجيولوجى للثقافة المصرية.

ثانيا: إن كل محاولات التجديد خلقت حالة من صدام السلفيات، وحولت الشأن الثقافى إلى مسألة سياسية تتعلق بالهوية والانتماء، وتتصادم مع تعريف من نحن؟ وما هويتنا؟ وما هو تراثنا؟.. الخ، فلم يتم تقديم عملية التجديد من داخل النسق المعرفى والفكرى والثقافى الذى يراد تجديده وتغييره ليتواكب مع العصر، بل على العكس جاءت من خارجه، ومن منطلقات عقيدية وليست فكرية أو فلسفية قابلة للنقاش، فالذين دعوا إلى تجديد الخطاب الديني، أو تجديد الفكر الإسلامى قدموه من خلال نموذج الثورة البروتستانتية، وطالبوا بثورة بروتستانتية إسلامية، والذين طالبوا بتصحيح العلاقة بين الدين والعمل السياسى قدموه من خلال النموذج الأوروبى للفصل بين الكنيسة والدولة.

وفى كل ذلك كان النموذج الأوروبى دينا لا يقبل النقاش أو التشكيك أو التغيير، فكان دعاة التخلص من العقلية السلفية الإسلامية أكثر سلفية ممن يريدون علاجهم، وكانت سلفيتهم فاقدة للشرعية الثقافية لأنها سلفية غريبة منقولة عن عدو تاريخى ومستعمر سابق، لذلك كان من السهل أن يدحض حجتهم خطيب جمعة بسيط التعليم فى نجع من نجوع الريف.

 

ثالثا: خلقت كل محاولات التجديد السابقة ترسانة ضخمة من الثنائيات المتعارضة والمتناقضة، مثلت سجنا كبيرا للعقل المصري، وهى جميعا ثنائيات زائفة؛ لا وجود لها فى الواقع، مثل الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، والإسلام والغرب، والدين والسياسة.. إلخ، لأنه لا يوجد فى الواقع فكر أو إنسان مائة فى المائة أصيل، وآخر معاصر، كل منا حتى أكثر البشر تشددا من الناحية الدينية يحمل فى عقله ونفسه وعلى جسده من المعاصرة ما يجعله بين الاثنين.

 

من هنا فلا سبيل لتجديد الفكر سواء الديني، أو الفكر عموما إلا بتحرير العقول من كل أنواع السلفيات، ومن كل الثنائيات، وأن يعيش الجميع الواقع بكل معطياته من خلال منظومة قيم ومعايير وقواعد مستمدة مما يعتبرونه مصدر إلهام لهم، سواء كان دينا أو فلسفة أو أى مصدر يختارونه.

 

نقلاً عن الأهرام 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟