يحكى أن جماعة من الناس المختلفين فيما بينهم اختلافا شديدا، فى مستوى الثراء، وفيما صادفوه فى حياتهم من حظ سعيد أو سيىء، وفى نوع العقلية وطريقة التفكير، جاءهم من يقول لهم إن كلا منهم يستطيع الآن أن يستبدل بما لديه ما يراه قد تحقق لغيره، من ثراء أو حظ سعيد أو عقلية سليمة، فإذا بكل منهم يختار لنفسه نصيب شخص غيره ممن يراه أكثر ثراء منه، أو أسعد حظا، ولكن فيما يتعلق بنوع العقلية وطريقة التفكير، فضل كل منهم أن يحتفظ لنفسه بعقله.
القصة لا تخلو من حكمة، إذ تشير إلى عجز الإنسان عن ادراك عيوبه العقلية، بينما يجد من السهل أن يرى قلة ماله أو سوء حظه. فالإنسان يصعب عليه مثلا أن يعترف (لنفسه أو لغيره) بالتحيز لموقف فكرى دون غيره (لأسباب لا عقلانية)، بينما يسهل عليه اكتشاف تحيزات الآخرين (هل الأمر يشبه قدرة المرء على تمييز الروائح المنبثقة من أجسام الآخرين، أكثر من تلك المنبثقة من جسمه هو)؟
وكما أن «الحب أعمي»، كما يقال، فإن من الصعب أن تكون عقلانيا تماما فى الحكم على شخص تحبه، أو إزاء ظاهرة تحبها أو اعتدت عليها. من الأسهل أن تكون عادلا وعقلانيا إزاء شخص لا تعرفه، ولا تحمل إزاءه أى عاطفة، ولكن من الصعب أن تكون كذلك إزاء شخص تحبه بشدة أو تكرهه بشدة.
إن كل هذا يبرر القول بأن من الصعب جدا أن تتصور عصرا أو أمة تخلصتا تماما من كل صور اللاعقلانية فى التفكير، بل الأرجح أن التخلص من احدى صور اللاعقلانية سوف يتبعه الوقوع فى صورة أو صور أخرى لها. وسأضرب بعض الأمثلة.
فى كتاب عن فولتير، ذلك التنويرى العظيم، الذى رفع لواء العقلانية ضد سيطرة أفكار العصور الوسطي، كتبه رجل معجب أشد الاعجاب بفولتير (هو الفيلسوف البريطانى الفرد إيير (A. Ayer)، فلا يمكن اتهامه بأنه يتجنى عليه، جاءت الفقرة الآتية: «كان فولتير يجد من السهل أن يغض البصر عن تجاوزات هؤلاء الحكام الذين يحوزون تقديره واحترامه، ويعتبرهم من قبيل (المستبدين العادلين).. فهو مثلا فى كتابه (تاريخ الامبراطورية الروسية تحت حكم بطرس الأكبر) يحاول بشدة التقليل من أهمية ما ارتكبه بطرس من فظائع، مدفوعا بحماسه لدور بطرس فى تحديث وتمرين روسيا.. كذلك لم يستطع فولتير قط أن يرى فردريك الأكبر، ملك بروسيا، على حقيقته، أو أن يصفه بما يستحقه (كمدمن حرب). أما المثل الصارخ فنجده فى علاقة فولتير بكاترين أمبراطورة روسيا، فهو يحاول التهوين من شأن قيامها بقتل زوجها، ويكاد يكيل لها الثناء على دورها فى تقسيم بولندا، وهو يؤيدها بحماس فى حربها ضد سلطان تركيا، كما لو كان دافعها الحقيقى إلى ضم القسطنطينية هو تحرير اليونان. إن فولتير لم يكن يرى كاترين إلا من خلال موقفها المؤيد لفلسفة التنوير، فما دامت كاثرين قد قامت بشراء مكتبة ديدرو لنفسها، وقبلت أن تطعم نفسها ضد الجدري، فى الوقت الذى كان التطعيم فيه ممنوعا فى فرنسا، ولم تمارس أى عمل من أعمال القهر باسم الدين، فما الذى يهم فولتير من أنها كانت قد غفلت مثلا عن تحرير الأقنان فى روسيا؟»
فى مثال آخر يتعلق بنا نحن، نحن نعرف المكانة التى يحتلها الدكتور طه حسين كرائد من رواد التنوير فى الفكر المصرى والعربي، ويتخذ كتابه (فى الشعر الجاهلي) الذى صدر فى 1926، علامة من علامات هذا التنوير، ولكن طه حسين فى هذا الكتاب نفسه اتخذ موقفا غريبا من الشعر الجاهلي، لا أظن أن كاتبا عربيا مهما قد أيده فيه، وهو أن هذا الشعر لم يوضع فى الجاهلية بل هو مخول ووضع بعد الاسلام لأغراض شتى أهمها الدفاع عن الاسلام نفسه. من المعروف أن طه حسين اقتبس هذا الموقف من مستشرق بريطانى هو مارجليرث، لا ينتظر منه إلا أن يكون ذا قدرة فائقة على تذوق الشعر العربي. لقد كتب شكيب أرسلان (الذى يلقب أحيانا بأمير البيان) تعليقا على هذا: «إن طه حسين كان فى هذا مدفوعا بعقيدة سخيفة فاشية، ويا للأسف فى الشرق، وهى أن الأوروبى لا يخطيء أبدا، وأنه من حيث اخترع الأوروبى سكك الحديد والغواصة والطيارة والسيارة والتلغراف اللاسلكى وما أشبه ذلك، فلا شك أنه صار يفهم جيميته الشماخ ولافية الشنفرى، أحسن مما يفهمها سيبويه والخليل بن أحمد. وأنه لما كان قوله الفصل فى الكيمياء والطبيعيات والطب والهندسة.. الخ، لزم أن يكون قوله الفصل أيضا فى المفاضلة بين الفرذوق وجرير والأخطل..»
ها قد مرت سنوات كثيرة على فولتير وبداية عصر التنوير الأوروبي، تزيد على قرنين، ومرت سنوات كثيرة على ظهور كتاب طه حسين وبداية عصر التنوير فى مصر (ما يقرب من مائة عام): ولكن حركة التنوير لم تتوقف بالطبع، لا هنا ولا هناك، وفى الحالين كان لابد أن نصادف أمثلة للافراط والتفريط على السواء، أى أمثلة للاعتقاد بأن التنوير (أو تحكيم العقل) يتطلب أشياء لا تتفق فى الحقيقة مع المصلحة العامة، أو تنافى الذوق السليم (وهذا هو الافراط)، ومن ناحية أخرى نجد أمثلة للامتناع عن تحكيم العقل إزاء ظواهر أو مواقف معينة رغم تعارضها الصارخ مع المصلحة العامة أو الذوق السليم (وهذا هو التفريط).
من أمثلة النوع الأول، أذكر أنى قرأت فى صحيفة انجليزية منذ نحو أربعين عاما، خبرا عن مجموعة من الشباب، أصدروا مجلة تضمنت مقالا يسيء إلى صورة السيد المسيح فى الأذهان، فقامت السلطات بمصادرة المجلة، فتظلم الشبان إلى القضاء، على أساس أن فى المصادرة تقييدا لحرية الفكر. وأذكر أن القاضى حكم بتأييد المصادرة على أساس أن هناك حدودا لحرية التعبير التى يمكن السماح بها دون الاضرار بالصالح العام.
من أمثلة هذا النوع أيضا، ما حدث أكثر من مرة فى مصر، خلال العقود الماضية،مازال يحدث من كتابات تقدم إلينا باسم التنوير مع أنها فى الحقيقة لا تحقق الصالح العام، وتتجاوز حدود الأدب. كما نجد كتابات تقدم إلينا أيضا باسم التنوير، ولكنها تهاجم متدينين عقلانيين، الدين لديهم وسيلة لتحرير العقل لا لقهره، ولتحرير الأوطان لا لتبرير خنوعها، فيوضع هؤلاء مع فريق اللاعقلانيين فى سلة واحدة، وأحيانا يكون هذا الموقف من جانب مدعى التنوير من قبيل ممالأة السلطة والتقرب إليها، وليس من قبيل التنوير الحقيقي.
أما النوع الثانى الذى وصفناه «بالتفريط»، فنجده أيضا هنا وهناك، أى فى العالم المسمى «بالمتقدم» والآخر المسمى «بالمتخلف» على السواء، إذ نرى سكوتا غريبا من التنويريين على ما تمارسه شركات الاعلان والتسويق من تلويث للعقل، واغراء الناس بشراء ما ليسوا بحاجة إليه (بل وأحيانا بما ثبت ضرره)، فتصف هذه السلع بما ليس فيها، وتستخدم مختلف وسائل الاثارة لدفع المستهلكين إلى اتخاذ قرارات فى غير صالحهم، أى للقيام بتصرفات لا عقلانية، مادامت تجلب لهذه الشركات مزيدا من الأرباح.
هل يكفى حقا أن هؤلاء يكتبون أو يتحدثون من حين لآخر فى ذم الارهاب والارهابيين، لكى يستحقوا منا وصف «التنويريين»؟ نقلا عن الأهرام